قُلْنَا: الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ اقْتَضَتْ تَدْبِيرَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الوجه اللَّائِقِ بِهِ الْمُوَافِقِ لِمَصْلَحَتِهِ، فَمِزَاجُ الذَّكَرِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَارًّا يَابِسًا، وَمِزَاجُ الْأُنْثَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَارِدًا رَطْبًا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ فِي دَاخِلِ بَدَنِ الْأُنْثَى، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأُنْثَى مُخْتَصَّةً بِمَزِيدِ الرُّطُوبَاتِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الرُّطُوبَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي بَدَنِ الْأُنْثَى رُطُوبَاتٌ كَثِيرَةٌ لِتَصِيرَ مَادَّةً لِتَوَلُّدِ الْوَلَدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا كَبِرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَدَنُ الْأُمِّ قَابِلًا لِلتَّمَدُّدِ حَتَّى يَتَّسِعَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، فَإِذَا كَانَتِ الرُّطُوبَاتُ غَالِبَةً عَلَى بَدَنِ الْأُمِّ كَانَ بَدَنُهَا قَابِلًا لِلتَّمَدُّدِ، فَيَتَّسِعُ لِلْوَلَدِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ بَدَنَ الْأُنْثَى مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ بِمَزِيدِ الرُّطُوبَاتِ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ إِنَّ الرُّطُوبَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَصِيرُ مَادَّةً لِازْدِيَادِ بَدَنِ الْجَنِينِ حِينَ كَانَ فِي رَحِمِ الْأُمِّ، فَعِنْدَ انْفِصَالِ الْجَنِينِ تَنْصَبُّ إِلَى الثَّدْيِ وَالضَّرْعِ لِيَصِيرَ مَادَّةً لِغِذَاءِ ذَلِكَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَتَوَلَّدُ اللَّبَنُ مِنَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْأُنْثَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي حَقِّ الذَّكَرِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا التَّصْوِيرَ فَنَقُولُ: الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَتَوَلَّدُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَالْفَرْثُ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْكَرِشِ، وَالدَّمُ يَكُونُ فِي أَعْلَاهُ، وَاللَّبَنُ يَكُونُ فِي الْوَسَطِ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلِأَنَّ الدَّمَ لَوْ كَانَ يَتَوَلَّدُ فِي أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَالْكَرِشِ كَانَ يَجِبُ إِذَا قَاءَ أَنْ يَقِيءَ الدَّمَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّبَنَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي فِي الْفَرْثِ، وَهُوَ الْأَشْيَاءُ الْمَأْكُولَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَرِشِ، وَهَذَا اللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً فِيمَا بَيْنَ الْفَرْثِ أَوَّلًا، ثُمَّ كَانَتْ حَاصِلَةً فِيمَا بَيْنَ الدَّمِ ثَانِيًا، فَصَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْكَثِيفَةِ الْغَلِيظَةِ، وَخَلَقَ فِيهَا الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا صَارَتْ لَبَنًا مُوَافِقًا لِبَدَنِ الطِّفْلِ، فَهَذَا مَا حَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حُدُوثَ اللَّبَنِ فِي الثَّدْيِ وَاتِّصَافَهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِتَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ مُشْتَمِلٌ عَلَى حِكَمٍ عَجِيبَةٍ وَأَسْرَارٍ بَدِيعَةٍ، يَشْهَدُ صَرِيحُ الْعَقْلِ بِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ وَالْمُدَبِّرِ الرَّحِيمِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي أَسْفَلِ الْمَعِدَةِ مَنْفَذًا يَخْرُجُ مِنْهُ ثِقَلُ الْغِذَاءِ، فَإِذَا تَنَاوَلَ الْإِنْسَانُ غِذَاءً أَوْ شَرْبَةً رَقِيقَةً انْطَبَقَ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ انْطِبَاقًا كُلِّيًّا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إِلَى أَنْ يَكْمُلَ انْهِضَامُهُ فِي الْمَعِدَةِ وَيَنْجَذِبُ مَا صَفَا مِنْهُ إِلَى الْكَبِدِ وَيَبْقَى الثِّقَلُ هُنَاكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَتِحُ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ وَيُتْرَكُ مِنْهُ ذَلِكَ الثِّقَلُ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا إِلَّا بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، لِأَنَّهُ مَتَّى كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَقَاءِ الْغِذَاءِ فِي الْمَعِدَةِ حَاصِلَةً انْطَبَقَ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْحَاجَةُ إِلَى خُرُوجِ ذَلِكَ الْجِسْمِ عَنِ الْمَعِدَةِ انْفَتَحَ، فَحُصُولُ الِانْطِبَاقِ تَارَةً وَالِانْفِتَاحُ أُخْرَى، بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ، مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْكَبِدِ قُوَّةً تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ الْحَاصِلَةَ فِي ذَلِكَ الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ، وَلَا تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ الْكَثِيفَةَ، وَخَلَقَ فِي الْأَمْعَاءِ قُوَّةً تَجْذِبُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ الْكَثِيفَةَ الَّتِي هِيَ الثِّقَلُ، وَلَا تَجْذِبُ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ الْبَتَّةَ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لَاخْتَلَفَتْ مَصْلَحَةُ الْبَدَنِ وَلَفَسَدَ نِظَامُ هَذَا التَّرْكِيبِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْكَبِدِ قُوَّةً هَاضِمَةً طَابِخَةً، حَتَّى أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ اللَّطِيفَةَ تَنْطَبِخُ فِي الْكَبِدِ وَتَنْقَلِبُ دَمًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْمَرَارَةِ قُوَّةً جَاذِبَةً لِلصَّفْرَاءِ، وَفِي الطِّحَالِ قُوَّةً جَاذِبَةً لِلسَّوْدَاءِ، وَفِي الْكُلْيَةِ قُوَّةً جاذبة
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute