للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَبِّكِ فِي الطُّرُقِ الَّتِي أَلْهَمَكِ وَأَفْهَمَكِ فِي عَمَلِ الْعَسَلِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ: فَاسْلُكِي فِي طَلَبِ تِلْكَ الثَّمَرَاتِ سُبُلَ رَبِّكِ. أما قوله: ذُلُلًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ السُّبُلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَلَّلَهَا لَهَا وَوَطَّأَهَا وَسَهَّلَهَا، كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الْمُلْكِ: ١٥] . الثَّانِي: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَاسْلُكِي أَيْ وَأَنْتِ أَيُّهَا النَّحْلُ ذُلُلٌ مُنْقَادَةٌ لِمَا أُمِرْتِ بِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ.

ثم قال تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها وَفِيهِ بَحْثَانِ:

البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنْ يَحْتَجَّ الْإِنْسَانُ الْمُكَلَّفُ بِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ لِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ النَّحْلَ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ خَاطَبَ الْإِنْسَانَ وَقَالَ: إِنَّا أَلْهَمْنَا هَذَا النَّحْلَ لِهَذِهِ الْعَجَائِبِ، لِأَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ.

البحث الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْعَسَلُ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْزَاءٍ طَلِّيَّةٍ تَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ وَتَقَعُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَعَلَى الْأَوْرَاقِ وَالْأَزْهَارِ، فَيَلْقُطُهَا الزُّنْبُورُ بِفَمِهِ، فَإِذَا ذَهَبْنَا إِلَى هَذَا الوجه كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها أَيْ مِنْ أَفْوَاهِهَا، وَكُلُّ تَجْوِيفٍ فِي دَاخِلِ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى بَطْنًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: بُطُونُ الدِّمَاغِ وَعَنَوْا أَنَّهَا تَجَاوِيفُ الدِّمَاغِ، وكذا هاهنا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا أَيْ مِنْ أَفْوَاهِهَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ النَّحْلَةَ تَأْكُلُ الْأَوْرَاقَ وَالثَّمَرَاتِ ثُمَّ تَقِيءُ فَذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ فَالْكَلَامُ ظَاهِرٌ.

ثم قال تَعَالَى: شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْعَسَلَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ:

فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ شَرَابًا وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَارَةً يشرب وحده وتارة يتخذ منه الْأَشْرِبَةِ.

وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْهُ أَحْمَرَ وَأَبْيَضَ وَأَصْفَرَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فَاطِرٍ: ٢٧] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالطَّبْعِ، لِأَنَّ هَذَا الْجِسْمَ مَعَ كَوْنِهِ مُتَسَاوِيَ الطَّبِيعَةِ لَمَّا حَدَثَ عَلَى أَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ تِلْكَ الْأَلْوَانِ بِتَدْبِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، لَا لِأَجْلِ إِيجَادِ الطَّبِيعَةِ.

وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وَفِيهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَسَلِ.

فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ شِفَاءً لِلنَّاسِ وهو يضر بالصفراء ويهيج المرار؟

قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ شِفَاءُ لِكُلِّ النَّاسِ وَلِكُلِّ دَاءٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ، بل لما كان شفاء للبعض/ ومن بَعْضِ الْأَدْوَاءِ صَلُحَ بِأَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ فِيهِ شِفَاءٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِفَاءٌ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ الْمَعَاجِينِ إِلَّا وَتَمَامُهُ وَكَمَالُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَجْنِ بِالْعَسَلِ، وَأَيْضًا فَالْأَشْرِبَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْهُ فِي الْأَمْرَاضِ الْبَلْغَمِيَّةِ عَظِيمَةُ النَّفْعِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقِصَّةُ تُوَلُّدِ الْعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ تَمَّتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ أي في

<<  <  ج: ص:  >  >>