للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَصِيرُ كَسْبِيَّةً، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَسْبُوقَةً بِعُلُومٍ أُخْرَى إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ مُشْكِلٌ.

وَجَوَابُهُ أَنْ نَقُولَ: الْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ الْبَدِيهِيَّةَ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي نُفُوسِنَا، ثُمَّ إِنَّهَا حَدَثَتْ وَحَصَلَتْ، أما قوله فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ كَسْبِيَّةً.

قُلْنَا: هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ مَمْنُوعَةٌ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ فِي نُفُوسِنَا بَعْدَ عَدَمِهَا بِوَاسِطَةِ إِعَانَةِ الْحَوَاسِّ الَّتِي هِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ فِي مَبْدَأِ الْخِلْقَةِ خَالِيَةً عَنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، فَإِذَا أَبْصَرَ الطِّفْلُ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ارْتَسَمَ فِي خَيَالِهِ مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الْمُبْصَرِ، وَكَذَلِكَ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ارْتَسَمَ فِي سَمْعِهِ وَخَيَالِهِ مَاهِيَّةُ ذَلِكَ الْمَسْمُوعِ وكذا القول فِي سَائِرِ الْحَوَاسِّ، فَيَصِيرُ حُصُولُ الْحَوَاسِّ سَبَبًا لِحُضُورِ مَاهِيَّاتِ الْمَحْسُوسَاتِ فِي النَّفْسِ وَالْعَقْلِ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ: مَا يَكُونُ نَفْسُ حُضُورِهِ مُوجِبًا تَامًّا فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِإِسْنَادِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ، مِثْلَ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ الْوَاحِدَ مَا هُوَ، / وَأَنَّ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ مَا هُوَ كَانَ حُضُورُ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ عِلَّةً تَامَّةً فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ عَيْنُ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ، مِثْلَ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ الْجِسْمَ مَا هُوَ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ مَا هُوَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ هَذَيْنِ التَّصَوُّرَيْنِ فِي الذِّهْنِ لَا يَكْفِي فِي جَزْمِ الذِّهْنِ بِأَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَعُلُومٍ سَابِقَةٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْكَسْبِيَّةَ إِنَّمَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا بِوَاسِطَةِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَحُدُوثُ هَذِهِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ حُدُوثِ تَصَوُّرِ مَوْضُوعَاتِهَا وَتَصَوُّرِ مَحْمُولَاتِهَا. وَحُدُوثُ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِعَانَةِ هَذِهِ الْحَوَاسِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا، فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ لِحُدُوثِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فِي النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى هَذِهِ الْحَوَاسَّ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ

لِيَصِيرَ حُصُولُ هَذِهِ الْحَوَاسِّ سَبَبًا لِانْتِقَالِ نُفُوسِكُمْ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهَذِهِ أَبْحَاثٌ شَرِيفَةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُدْرَجَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لِتَسْمَعُوا مَوَاعِظَ اللَّهِ وَالْأَبْصارَ لِتُبْصِرُوا دَلَائِلَ اللَّهِ، وَالْأَفْئِدَةَ لِتَعْقِلُوا عَظَمَةَ اللَّهِ، وَالْأَفْئِدَةُ جَمْعُ فُؤَادٍ نَحْوَ أَغْرِبَةٍ وَغُرَابٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يُجْمَعْ فُؤَادٌ عَلَى أَكْثَرِ الْعَدَدِ، وَمَا قِيلَ فِيهِ فِئْدَانٌ كما قيل: غراب وغربان. وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْفُؤَادَ إِنَّمَا جُمِعَ عَلَى بِنَاءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ كَثِيرَانِ وَأَنَّ الْفُؤَادَ قَلِيلٌ، لِأَنَّ الْفُؤَادَ إِنَّمَا خُلِقَ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَيْسُوا كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُونَ مَشْغُولِينَ بِالْأَفْعَالِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالصِّفَاتِ السَّبُعِيَّةِ، فَكَأَنَّ فُؤَادَهُمْ لَيْسَ بِفُؤَادٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ فِي جَمْعِهِ صِيغَةَ جَمْعِ الْقِلَّةِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَخْرَجَكُمْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَعْلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْإِخْرَاجِ عَنِ الْبَطْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَأَيْضًا إِذَا حَمَلْنَا السَّمْعَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْأَبْصَارَ عَلَى الرُّؤْيَةِ زَالَ السُّؤَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أما قوله: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فَفِيهِ مسألتان:

<<  <  ج: ص:  >  >>