للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَيْ عَلَى مَا الْتَزَمُوهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ يَجْزِيهِمْ عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَأْتِي بِالْمُبَاحَاتِ وَبِالْمَنْدُوبَاتِ وَبِالْوَاجِبَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ يُثَابُ لَا عَلَى فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ:

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَفْظَةُ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً تُفِيدُ الْعُمُومَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؟

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِلْوَعْدِ بِالْخَيْرَاتِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ الْوَعْدِ مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ الْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ إِثْبَاتًا لِلتَّأْكِيدِ وَإِزَالَةً لِوَهْمِ التَّخْصِيصِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مُغَايِرٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ؟

وَالْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي كَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ. وَشَرْطُ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِنَّمَا يُفِيدُ الْأَثَرَ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يُفِيدُ الْأَثَرَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ أَوْ كَانَ مَعَ عَدَمِهِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِفَادَةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ، أَمَّا إِفَادَتُهُ لِأَثَرٍ غَيْرِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَهُوَ تَخْفِيفُ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيمَانِ.

السُّؤَالُ الرَّابِعُ: هَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ.

وَالْجَوَابُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: الْأَقْرَبُ أَنَّهَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ مَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجْزِيهِمْ عَلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ أَعْمَالِهِمْ فَهَذَا لَا امْتِنَاعَ فِيهِ.

فَإِنْ قِيلَ: بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا فَمَا هِيَ؟

وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا قِيلَ: هُوَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ، وَقِيلَ: عِبَادَةُ اللَّهِ مَعَ أَكْلِ الْحَلَالِ، وَقِيلَ:

الْقَنَاعَةُ، وَقِيلَ: رِزْقُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ

كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي»

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ كَفَافًا»

قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَقَوْلُ من يقول: إن الْقَنَاعَةُ حَسَنٌ مُخْتَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ عَيْشُ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَيْشَ الْقَانِعِ وَأَمَّا الْحَرِيصُ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبَدًا فِي الْكَدِّ وَالْعَنَاءِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ عَيْشَ الْمُؤْمِنِ فِي الدَّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ عَيْشِ الْكَافِرِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ رِزْقَهُ إِنَّمَا حَصَلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>