للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُبْصِرُونَ

[الْأَعْرَافِ: ٢٠١] فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ حَتَّى تَبْقَى تِلْكَ الْقِرَاءَةُ مَصُونَةً عَنِ الْوَسْوَسَةِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُلُّ، لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمَّا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ فَغَيْرُ الرَّسُولِ أَوْلَى بِهَا.

المسألة الثَّالِثَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ لِلتَّعْقِيبِ فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَالِكٍ وَدَاوُدَ قَالُوا:

وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَحَقَّ بِهِ ثَوَابًا عَظِيمًا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَقَعَتِ الْوَسْوَسَةُ فِي قَلْبِهِ، وَتِلْكَ الْوَسْوَسَةُ تُحْبِطُ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ أَمَّا إِذَا اسْتَعَاذَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ انْدَفَعَتِ الْوَسَاوِسُ وَبَقِيَ الثَّوَابُ مَصُونًا عَنِ الْإِحْبَاطِ. أَمَّا الْأَكْثَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَقَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ اسْتَعِذْ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَمِثْلُهُ إِذَا أَكَلْتَ فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ وَإِذَا سَافَرْتَ فَتَأَهَّبْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [الْمَائِدَةِ: ٦] أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا، وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى الْوَسْوَسَةَ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ الرَّسُولِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: ٥٢] وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ الرَّسُولَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ لِدَفْعِ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ، فَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ تَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ.

المسألة الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ عَطَاءٍ: أَنَّهُ تَجِبُ الِاسْتِعَاذَةُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ/ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَعَوَّذْ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَكِنْ حَالُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ آكَدُ.

المسألة الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِيلَ إِبْلِيسُ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ، لِأَنَّ لِجَمِيعِ الْمَرَدَةِ مِنَ الشَّيَاطِينِ حَظًّا فِي الْوَسْوَسَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ لِلشَّيْطَانِ قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَبْدَانِ النَّاسِ، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ إِنَّمَا تُفِيدُ إِذَا حَضَرَ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ ضَعِيفًا، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّفْوِيضُ الْحَاصِلُ عَلَى هَذَا الوجه هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.

ثم قال: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُطِيعُونَهُ يُقَالُ: تَوَلَّيْتُهُ أَيْ أَطَعْتُهُ وَتَوَلَّيْتُ عَنْهُ أَيْ أَعْرَضْتُ عَنْهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (بِهِ) إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى رَبِّهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَالْمَعْنَى بِسَبَبِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ مُؤَدِّيَةٍ إِلَى الْكُفْرِ كَفَرْتَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَيْ مِنْ أَجْلِهَا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ أَيْ مِنْ أَجْلِهِ وَمِنْ أَجْلِ حَمْلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الشِّرْكِ بالله صاروا مشركين.

<<  <  ج: ص:  >  >>