للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَالِمُ بِكَوْنِهَا مُهَذَّبَةً خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ، مَقْرُونَةً بِالصِّدْقِ وَالصَّفَاءِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْكَرَامَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْإِسْرَاءِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَقَلُّونَ قَالُوا: إِنَّهُ مَا أُسْرِيَ إِلَّا بِرُوحِهِ حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ رُؤْيَا. وَأَنَّهُ مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِرُوحِهِ، وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ يَقَعُ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: في إثبات الجواز العقلي. والثاني: فِي الْوُقُوعِ.

أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِثْبَاتُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، فَنَقُولُ: الْحَرَكَةُ الْوَاقِعَةُ فِي السُّرْعَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ مُمْكِنَةٌ فِي نَفْسِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْحَرَكَةِ فِي هَذَا الْحَدِّ من السرعة غير ممتنع، فنفتقر هاهنا إِلَى بَيَانِ مُقَدِّمَتَيْنِ:

الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْحَرَكَةَ الْوَاقِعَةَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ مُمْكِنَةٌ فِي نَفْسِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:

الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ مَا يَقْرُبُ مِنْ نِصْفِ الدَّوْرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْهَنْدَسَةِ أَنَّ نِسْبَةَ الْقُطْرِ الْوَاحِدِ إِلَى الدَّوْرِ نِسْبَةُ الْوَاحِدِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَسُبْعٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ نِصْفِ الْقُطْرِ إِلَى نِصْفِ الدَّوْرِ نِسْبَةَ الْوَاحِدِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَسُبْعٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَفَعَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مَا فَوْقَ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ فَهُوَ لَمْ يَتَحَرَّكْ إِلَّا بِمِقْدَارِ نِصْفِ الْقُطْرِ فَلَمَّا حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الزَّمَانِ حَرَكَةُ نِصْفِ الدَّوْرِ فَكَانَ حُصُولُ الْحَرَكَةِ بِمِقْدَارِ نِصْفِ الْقُطْرِ/ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ، فَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الِارْتِقَاءَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ فِي مِقْدَارِ ثُلُثٍ مِنَ اللَّيْلِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُصُولُهُ فِي كُلِّ اللَّيْلِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْهَنْدَسَةِ أَنَّ قُرْصَ الشَّمْسِ يُسَاوِي كُرَةَ الْأَرْضِ مِائَةً وَسِتِّينَ وَكَذَا مَرَّةٍ ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ طُلُوعَ الْقُرْصِ يَحْصُلُ فِي زَمَانٍ لَطِيفٍ سَرِيعٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُلُوغَ الْحَرَكَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ.

الوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَمَا يُسْتَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ صُعُودُ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ مِنْ مَرْكَزِ الْعَالَمِ إِلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ، فَكَذَلِكَ يُسْتَبْعَدُ نُزُولُ الْجِسْمِ اللَّطِيفِ الرُّوحَانِيِّ مِنْ فَوْقِ الْعَرْشِ إِلَى مَرْكَزِ الْعَالَمِ، فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِمِعْرَاجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ مُمْتَنِعًا فِي الْعُقُولِ، كَانَ الْقَوْلُ بِنُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَكَّةَ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ مُمْتَنِعًا، وَلَوْ حَكَمْنَا بِهَذَا الِامْتِنَاعِ كَانَ ذَلِكَ طَعْنًا فِي نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْمِعْرَاجِ فَرْعٌ عَلَى تَسْلِيمِ جَوَازِ أَصْلِ النُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ حُصُولِ حَرَكَةٍ سَرِيعَةٍ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، يَلْزَمُهُمُ الْقَوْلُ بِامْتِنَاعِ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي اللَّحْظَةِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَكَّةَ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا كَانَ مَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا بَاطِلًا.

فَإِنْ قَالُوا: نَحْنُ لَا نَقُولُ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جِسْمٌ يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَإِنَّمَا نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ زَوَالُ الْحُجُبِ الْجُسْمَانِيَّةِ عَنْ رُوحِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظْهَرَ فِي روحه من

<<  <  ج: ص:  >  >>