للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَتْبَعُونَ آثَارَ أَقْدَامِ النَّاسِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا [الْحَدِيدِ: ٢٧] وَسُمِّي الْقَفَا قَفًا لِأَنَّهُ مُؤَخَّرُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ كَأَنَّهُ شَيْءٌ يَتْبَعُهُ وَيَقْفُوهُ فَقَوْلُهُ: وَلا تَقْفُ أَيْ وَلَا تَتْبَعْ وَلَا تَقْتَفِ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْحُكْمِ بِمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ وَفِيهِ وُجُوهٌ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ نَهْيُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَهَا فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِ أَسْلَافِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى نَسَبَهُمْ فِي تِلْكَ الْعَقَائِدِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فَقَالَ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النَّجْمِ: ٢٣] وَقَالَ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ [النَّمْلِ: ٦٦] وَحُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الْجَاثِيَةِ: ٣٢] وَقَالَ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَصِ: ٥٠] وَقَالَ: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [النَّحْلِ: ١١٦] الْآيَةَ وَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٤٨] .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نقل عن محمد بن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَشْهَدْ إِلَّا بِمَا رَأَتْهُ عَيْنَاكَ وَسَمِعَتْهُ أُذُنَاكَ وَوَعَاهُ قَلْبُكَ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْهُ: النَّهْيُ عَنِ الْقَذْفِ وَرَمْيِ الْمُحْصَنِينَ وَالْمُحْصَنَاتِ بِالْأَكَاذِيبِ، وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ جَارِيَةً بِذَلِكَ يَذْكُرُونَهَا فِي الْهِجَاءِ وَيُبَالِغُونَ فِيهِ.

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الْكَذِبِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقُلْ سَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْ وَرَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْ.

وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَفْوَ هُوَ الْبُهْتُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَفَا، كَأَنَّهُ قَوْلٌ يُقَالُ خَلْفَهُ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْغِيبَةِ وَهُوَ ذِكْرُ الرَّجُلِ فِي غِيبَتِهِ بِمَا يَسُوءُهُ.

وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مَنْ قَفَا مُسْلِمًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ،

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْلِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ وَالظَّنُّ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ، فَالْحُكْمُ فِي دِينِ اللَّهِ بِالْقِيَاسِ حُكْمٌ بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.

أُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْفَتْوَى عَمَلٌ بِالظَّنِّ وَهُوَ جَائِزٌ. وَثَانِيهَا: الْعَمَلُ بِالشَّهَادَةِ عَمَلٌ بِالظَّنِّ وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَثَالِثُهَا:

الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْقِبْلَةِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَرَابِعُهَا: قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالظَّنِّ وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَخَامِسُهَا: الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ وَسَائِرُ الْمُعَالَجَاتِ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَسَادِسُهَا: كَوْنُ هَذِهِ الذَّبِيحَةِ ذَبِيحَةً لِلْمُسْلِمِ مَظْنُونٌ لَا مَعْلُومٌ، وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ جَائِزٌ. وَسَابِعُهَا: قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [النِّسَاءِ: ٣٥] وَحُصُولُ ذَلِكَ الشِّقَاقِ مَظْنُونٌ لَا مَعْلُومٌ. وَثَامِنُهَا:

الْحُكْمُ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا مَظْنُونٌ ثُمَّ نَبْنِي عَلَى هَذَا الظَّنِّ أَحْكَامًا كَثِيرَةً مِثْلَ حُصُولِ التَّوَارُثِ وَمِثْلَ الدَّفْنِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمَا. وَتَاسِعُهَا: جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَسْفَارِ، وَطَلَبِ الْأَرْبَاحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>