للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْحُجَّةَ الْيَقِينِيَّةَ فِي إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٤٢] وَذَكَرَ الْحُجَّةَ الْيَقِينِيَّةَ فِي صِحَّةِ الْمَعَادِ وَهُوَ قَوْلِهِ: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاءِ: ٥١] قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِعِبَادِي إِذَا أَرَدْتُمْ إِيرَادَ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ فَاذْكُرُوا تِلْكَ الدَّلَائِلَ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ. وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ ذِكْرُ الْحُجَّةِ مَخْلُوطًا بِالشَّتْمِ وَالسَّبِّ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَقَوْلُهُ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٦] وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحُجَّةِ لَوِ اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ لَقَابَلُوكُمْ بِمِثْلِهِ كَمَا قَالَ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٠٨] وَيَزْدَادُ الْغَضَبُ وَتَتَكَامَلُ النَّفْرَةُ وَيَمْتَنِعُ حُصُولُ الْمَقْصُودِ، أَمَّا إِذَا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْحُجَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ/ الْخَالِي عَنِ الشَّتْمِ وَالْإِيذَاءِ أَثَّرَ فِي الْقَلْبِ تَأْثِيرًا شَدِيدًا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى وَجْهِ الْمَنْفَعَةِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ جَامِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ أَيْ مَتَى صَارَتِ الْحُجَّةُ مَرَّةً مَمْزُوجَةً بِالْبَذَاءَةِ صَارَتْ سَبَبًا لِثَوَرَانِ الْفِتْنَةِ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَدَاوَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ عَدَاوَةٌ قَدِيمَةٌ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَافِ: ١٧] وَقَالَ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الْحَشْرِ: ١٦] وَقَالَ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الْأَنْفَالِ: ٤٨] .

وَقَالَ: لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الْأَنْفَالِ: ٤٨] .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ الْآنَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِي الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ، وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ الْإِنْجَاءُ مِنْ كَفَّارِ مَكَّةَ وَأَذَاهُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَما أَرْسَلْناكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أَيْ حَافِظًا وَكَفِيلًا فَاشْتَغِلْ أَنْتَ بِالدَّعْوَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ مِنْ كُفْرِهِمْ فَإِنْ شاء الله هدايتهم هداهم، وإلا فلا.

القول الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقُلْ لِعِبادِي الْكُفَّارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الدَّعْوَةُ، فَلَا يَبْعُدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُخَاطَبُوا بِالْخِطَابِ الْحَسَنِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَذْبِ قُلُوبِهِمْ وَمَيْلِ طِبَاعِهِمْ إِلَى قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ أَقَرُّوا بِكَوْنِهِمْ عِبَادًا لِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

وَذَلِكَ لِأَنَّا قَبْلَ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ أَحْسَنُ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ، وَوَصْفَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَحْسَنُ مِنْ وَصْفِهِ بِالْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُصِرُّوا عَلَى تِلْكَ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ تَعَصُّبًا لِلْأَسْلَافِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّعَصُّبِ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَالشَّيْطَانُ عَدُوٌّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بِأَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَإِنْ يَشَأْ يُمِتْكُمْ، عَلَى الْكُفْرِ فَيُعَذِّبْكُمْ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ غَائِبَةٌ عَنْكُمْ فَاجْتَهِدُوا أَنْتُمْ فِي طَلَبِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَلَا تُصِرُّوا عَلَى الْبَاطِلِ وَالْجَهْلِ لئلا تصيروا

<<  <  ج: ص:  >  >>