للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السِّحْرِ، فَهَذِهِ الْعَجَائِبُ الَّتِي تَأْتِي بِهَا مِنْ ذَلِكَ السِّحْرِ ثُمَّ أَجَابَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ عَلِمْتُ بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ عَلِمْتُ أَنَّهَا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ فَإِنْ عَلِمْتَ وَأَقْرَرْتَ وَإِلَّا هَلَكْتَ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَضَمُّ التَّاءَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَفَتْحُهَا قِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ وَلَكِنْ مُوسَى هُوَ الَّذِي عَلِمَ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النَّمْلِ: ١٤] عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا صِحَّةَ أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ الزَّجَّاجُ الْأَجْوَدُ فِي الْقِرَاءَةِ الْفَتْحُ لِأَنَّ عِلْمَ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهَا آيَاتٌ نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْكَدُ فِي الْحُجَّةِ فَاحْتِجَاجُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى فِرْعَوْنَ بِعِلْمِ فِرْعَوْنَ أَوْكَدُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِعِلْمِ نَفْسِهِ. وَأَجَابَ النَّاصِرُونَ لِقِرَاءَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ دَلِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالُوا قَوْلُهُ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَيْقَنُوا شَيْئًا مَا فَأَمَّا أَنَّهُمُ اسْتَيْقَنُوا كَوْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ نَازِلَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧] قَالَ مُوسَى: لَقَدْ عَلِمْتَ فَكَأَنَّهُ نَفَى ذَلِكَ وَقَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ صِحَّةَ مَا أَتَيْتُ بِهِ عِلْمًا صَحِيحًا عِلْمَ الْعُقَلَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا تَشُكَّ فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ سَفَاهَتِكَ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ.

وَقَوْلُهُ: بَصائِرَ أَيْ حُجَجًا بَيِّنَةً كَأَنَّهَا بَصَائِرُ الْعُقُولِ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَعَلَهُ فَاعِلُهُ لِغَرَضِ تَصْدِيقِ الْمُدَّعَى وَمُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ مَوْصُوفَةً/ بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَفْعَالًا خَارِقَةً لِلْعَادَةِ وَصَرَائِحُ الْعُقُولِ تَشْهَدُ بِأَنَّ قَلْبَ الْعَصَا حَيَّةً مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْحَيَّةَ تَلَقَّفَتْ حِبَالَ السَّحَرَةِ وَعِصِيَّهُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا ثُمَّ عَادَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ فَأَصْنَافُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي فَرْقِ الْبَحْرِ وَإِظْلَالِ الْجَبَلِ فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ ما أنزلها إلا رب السموات.

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَهَا لِتَدُلَّ عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِي دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهَا بَصَائِرَ أَيْ دَالَّةً عَلَى صِدْقِ مُوسَى فِي دَعْوَاهُ وَهَذِهِ الدَّقَائِقُ لَا يُمْكِنُ فَهْمُهَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بَعْدَ إِتْقَانِ عِلْمِ الْأُصُولِ وَأَقُولُ يَبْعُدُ أَنْ يَصِيرَ غَيْرُ عِلْمِ الْأُصُولِ الْعَقْلِيِّ قَاهِرًا في تفسير كلام الله ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ مُوسَى قَالَ لِفِرْعَوْنَ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء: ١٠٣] وَاعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لِمُوسَى: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً فَعَارَضَهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَثْبُورُ الْمَلْعُونُ الْمَحْبُوسُ عَنِ الْخَيْرِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا أَيْ مَا مَنَعَكَ مِنْهُ وَمَا صَرَفَكَ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ ثَبَرْتُ فُلَانًا عَنِ الشَّيْءِ أَثْبُرُهُ أَيْ رَدَدْتُهُ عَنْهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هَالِكًا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ ثُبِرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَثْبُورٌ إِذَا هَلَكَ، وَالثُّبُورُ الْهَلَاكُ، وَمِنْ مَعْرُوفِ الْكَلَامِ فُلَانٌ يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ عِنْدَ مُصِيبَةٍ تَنَالُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الْفُرْقَانِ: ١٣، ١٤] وَاعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَصَفَ مُوسَى بِكَوْنِهِ مَسْحُورًا أَجَابَهُ مُوسَى بِأَنَّكَ مَثْبُورٌ يَعْنِي هَذِهِ الْآيَاتُ ظَاهِرَةٌ، وَهَذِهِ الْمُعْجِزَاتُ قَاهِرَةٌ وَلَا يَرْتَابُ الْعَاقِلُ فِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَفِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَظْهَرَهَا لِأَجْلِ تَصْدِيقِي وَأَنْتَ تُنْكِرُهَا فَلَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الْإِنْكَارِ إِلَّا الْحَسَدُ وَالْعِنَادُ وَالْغَيُّ وَالْجَهْلُ وَحُبُّ الدُّنْيَا ومن كان

<<  <  ج: ص:  >  >>