[الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَقَالَ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [مُحَمَّدٍ: ١١] فَثَبَتَ أَنَّ الرَّبَّ وَلِيُّ الْعَبْدِ وَأَنَّ الْعَبْدَ وَلِيُّ الرَّبِّ وَأَيْضًا الرَّبُّ حَبِيبُ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ حَبِيبُ الرَّبِّ قَالَ تَعَالَى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [الْمَائِدَةِ: ٥٤] وَقَالَ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١٦٥] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٢] وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعَبْدُ إِذَا بَلَغَ فِي الطَّاعَةِ إِلَى حَيْثُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَكُلَّ مَا فِيهِ رِضَاهُ وَتَرَكَ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ وَزَجَرَ عَنْهُ فَكَيْفَ يَبْعُدُ أَنْ يَفْعَلَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَبْدَ مَعَ لُؤْمِهِ وَعَجْزِهِ لَمَّا فَعَلَ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ وَيَأْمُرُهُ بِهِ فَلَأَنْ يَفْعَلَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ مَرَّةً وَاحِدَةً مَا أَرَادَهُ الْعَبْدُ كَانَ أَوْلَى وَلِهَذَا قال تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] .
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لَوِ امْتَنَعَ إِظْهَارُ الْكَرَامَةِ لَكَانَ ذَلِكَ إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ أَهْلًا لَأَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ، وَالْأَوَّلُ: قدح في/ قدرة اللَّهُ وَهُوَ كُفْرٌ. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ فَإِنَّ مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ وَمَحَبَّةَ اللَّهِ وَطَاعَاتَهُ وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَى ذِكْرِ تَقْدِيسِهِ وَتَمْجِيدِهِ وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد مَفَازَةٍ أَوْ تَسْخِيرِ حَيَّةٍ أَوْ أَسَدٍ فَلَمَّا أَعْطَى الْمَعْرِفَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالذِّكْرَ وَالشُّكْرَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَلَأَنْ يُعْطِيَهُ رَغِيفًا فِي مَفَازَةٍ فَأَيُّ بُعْدٍ فِيهِ؟
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ: «مَا تَقَرَّبَ عَبْدٌ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَلِسَانًا وَقَلْبًا وَيَدًا وَرِجْلًا بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَنْطِقُ وَبِي يَمْشِي»
وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي سَمْعِهِمْ نَصِيبٌ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا فِي بَصَرِهِمْ وَلَا فِي سَائِرِ أَعْضَائِهِمْ إِذْ لَوْ بَقِيَ هُنَاكَ نَصِيبٌ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمَا قَالَ أَنَا سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ أَشْرَفُ مِنْ تَسْخِيرِ الْحَيَّةِ وَالسَّبُعِ وَإِعْطَاءِ الرَّغِيفِ وَعُنْقُودٍ مِنَ الْعِنَبِ أَوْ شَرْبَةٍ مِنَ الْمَاءِ فَلَمَّا أَوْصَلَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ عَبْدَهُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ رَغِيفًا وَاحِدًا أَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ فِي مَفَازَةٍ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»
فَجَعَلَ إِيذَاءَ الْوَلِيِّ قَائِمًا مَقَامَ إِيذَائِهِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: ١٠] وَقَالَ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً [الْأَحْزَابِ: ٣٦] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْأَحْزَابِ: ٥٧] فَجَعَلَ بَيْعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةً مَعَ اللَّهِ وَرِضَاءَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضَاءَ اللَّهِ وَإِيذَاءَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيذَاءَ اللَّهِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ دَرَجَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا هاهنا
لَمَّا قَالَ: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»
دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِيذَاءَ الْوَلِيِّ قَائِمًا مَقَامَ إِيذَاءِ نَفْسِهِ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ
أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: «يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَرِضْتَ فَلَمْ تَعُدْنِي، اسْتَسْقَيْتُكَ فَمَا سَقَيْتَنِي، اسْتَطْعَمْتُكَ فَمَا أَطْعَمْتَنِي فَيَقُولُ يَا رَبِّ كَيْفَ أَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ! فَيَقُولُ إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي»
وَكَذَا فِي السَّقْيِ وَالْإِطْعَامِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَبْلُغُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ كِسْرَةَ خُبْزٍ أَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ أَوْ يُسَخِّرَ لَهُ كَلْبًا أَوْ وَرْدًا «١» .
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّا نُشَاهِدُ فِي الْعُرْفِ أَنَّ مَنْ خَصَّهُ الْمَلِكُ بِالْخِدْمَةِ الْخَاصَّةِ وَأَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْأُنْسِ فَقَدْ يَخُصُّهُ أَيْضًا بِأَنْ يُقَدِّرَهُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بَلِ الْعَقْلُ السَّلِيمُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ ذلك
(١) الورد بفتح الواو وسكون الراء، اسم من أسماء الأسد. (الصاوي) .