أَفْعَلُ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ بِخِلَافِهِ فَأَنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا أَفْعَلُ لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ غَالِبَةٌ عَلَى إِرَادَتِي فَعِنْدَ قِيَامِ الْمَانِعِ الْغَالِبِ لَا أَقْوَى عَلَى الْفِعْلِ، أَمَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَغْلُوبَةً فَإِنَّهَا لَا تُصْلَحُ عُذْرًا فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ لَا يَمْنَعُ الْغَالِبَ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ دَافِعًا لِلْحِنْثِ فَلَا يَكُونُ دَافِعًا لِلْحِنْثِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ غَالِبَةً، فَلَمَّا حَصَلَ دَفْعُ الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبَةً وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُنَا أَكَّدُوا هَذَا الْكَلَامَ فِي صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ دَيْنٌ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَدْيُونُ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأَقْضِيَنَّ هَذَا الدَّيْنَ غَدًا، ثُمَّ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا جَاءَ الْغَدُ وَلَمْ يَقْضِ هَذَا الدَّيْنَ لَمْ يَحْنَثْ وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْهُ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْلِيقٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى شَرْطٍ وَاقِعٍ فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ، وَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَاءَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَغَّبَ فِيهِ وَزَجَرَ عَنِ الْإِخْلَالِ بِهِ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَنْهَى عَنِ الشَّيْءِ وَيُرِيدُهُ وَقَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ وَلَا يُرِيدُهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ قُلْنَا السَّبَبُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا وُقُوعَ/ الطَّلَاقِ وَلَا نَعْرِفُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا أَوَّلًا حُصُولَ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ لَكِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْبٌ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِحُصُولِهَا إِلَّا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ مُتَعَلَّقَ الْمَشِيئَةِ قَدْ وَقَعَ وَحَصَلَ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا نَعْرِفُ حُصُولَ الْمَشِيئَةِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَلَا نَعْرِفُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا وُقُوعَ الْمَشِيئَةِ فَيَتَوَقَّفُ العلم بكل واحد منها على العلم بالآخر، وَهُوَ دَوْرٌ وَالدَّوْرُ بَاطِلٌ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا الطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قَالُوا: الشَّيْءُ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ غَدًا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَالِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ غَدًا فَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ، فَوَجَبَ تَسْمِيَةُ الْمَعْدُومِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ مُسَمًّى بِكَوْنِهِ شَيْئًا وَعِنْدَنَا أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ الَّذِي سَيَصِيرُ شَيْئًا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِكَوْنِهِ شَيْئًا فِي الْحَالِ كَمَا أَنَّهُ قَالَ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْلِ: ١] وَالْمُرَادُ سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ، أَمَّا قَوْلُهُ:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلْيَذْكُرْهُ إِذَا تَذَكَّرَهُ وَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفُوا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَوْ لَمْ يَحْصُلِ التَّذَكُّرُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَفَى فِي دَفْعِ الْحِنْثِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ يَوْمٍ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَجْلِسِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ يَسْتَثْنِي عَلَى مِقْدَارِ حَلْبِ النَّاقَةِ الْغَزِيرَةِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا، وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ بَلْ هُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْأَوْقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ هَذَا الذِّكْرُ فِي أَيِّ وَقْتٍ حَصَلَ هَذَا التَّذَكُّرُ وَكُلُّ مَنْ قَالَ وَجَبَ هَذَا الذِّكْرُ قَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ لِدَفْعِ الْحِنْثِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِدْلَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا إِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute