وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَعْظِيمَ اللَّه تَعَالَى يَظْهَرُ بِتَعْظِيمِ خَلْقِهِ وَنِعَمِهِ وَإِنَّمَا عَظَّمَ الْقُرْآنَ تَرْغِيبًا فِي تَدَبُّرِهِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ وَحَقَائِقِهِ وَذَلِكَ مُعْتَادٌ فِي الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ تَعْظُمُ الرِّسَالَةُ بِتَعْظِيمِ حَالِ الْمُرْسَلِ لِيَكُونَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ إِلَى الِامْتِثَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُقَالُ سَمَاءٌ عُلْيَا وسموات علا وفائدة وصف السموات بِالْعُلَا الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ مَنْ يَخْلُقُ مِثْلَهَا فِي عُلُوِّهَا وَبُعْدِ مُرْتَقَاهَا أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ الرَّحْمَنِ مَجْرُورًا صِفَةً لِمَنْ خَلَقَ وَالرَّفْعُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الْمَدْحِ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الرَّحْمَنُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مُشَارًا بِلَامِهِ إِلَى مَنْ خَلَقَ فَإِنْ قِيلَ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مَا مَحَلُّهَا إِذَا جَرَرْتَ الرَّحْمَنَ أَوْ رَفَعْتَهُ عَلَى الْمَدْحِ؟ قُلْنَا: إِذَا جَرَرْتَ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لَا غَيْرُ وَإِنْ رَفَعْتَ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّحْمَنِ خَبَرَيْنِ لِلْمُبْتَدَأِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ مَعْبُودَهُمْ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ وَلَا عَرْشَ وَلَا مَكَانَ، وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَكَانٍ بَلْ كَانَ غَنِيًّا عَنْهُ فَهُوَ بِالصِّفَةِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَزْعُمَ زَاعِمٌ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّه عرش. وثانيها: أن الجالس على العرش لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ الْحَاصِلُ مِنْهُ فِي يَمِينِ الْعَرْشِ غَيْرَ الْحَاصِلِ فِي يَسَارِ الْعَرْشِ فَيَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُؤَلَّفًا مُرَكَّبًا وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ إِلَى الْمُؤَلِّفِ وَالْمُرَكِّبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْجَالِسَ عَلَى الْعَرْشِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الِانْتِقَالِ وَالْحَرَكَةِ أَوْ لَا يُمْكِنَهُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَارَ مَحَلَّ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَيَكُونُ مُحْدَثًا لَا مَحَالَةَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ كَالْمَرْبُوطِ بل كان كالزمن بل أسوأ مِنْهُ فَإِنَّ الزَّمِنَ إِذَا شَاءَ الْحَرَكَةَ فِي رَأْسِهِ وَحَدَقَتِهِ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَى مَعْبُودِهِمْ. وَرَابِعُهَا: هُوَ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ فَإِنْ حَصَلَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَحْصُلَ فِي مَكَانِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِنْ حَصَلَ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ افْتَقَرَ إِلَى مُخَصِّصٍ يُخَصِّصُهُ/ بِذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا وَهُوَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] يَتَنَاوَلُ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إِلَّا فِي الْجُلُوسِ وَإِلَّا فِي الْمِقْدَارِ وَإِلَّا فِي اللَّوْنِ وَصِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ تَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ تَحْتَهُ، فَلَوْ كَانَ جَالِسًا لَحَصَلَ مَنْ يُمَاثِلُهُ فِي الْجُلُوسِ فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: ١٧] فَإِذَا كَانُوا حَامِلِينَ لِلْعَرْشِ وَالْعَرْشُ مَكَانُ مَعْبُودِهِمْ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ حَامِلِينَ لِخَالِقِهِمْ ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ الْمَخْلُوقَ أَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَا يَحْفَظُ الْخَالِقَ وَلَا يَحْمِلُهُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْمَكَانِ إِلَهًا فَكَيْفَ يُعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيْسَ بِإِلَهٍ لأن طريقنا إلى نفس إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَنَّهُمَا مَوْصُوفَانِ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا وَلَمْ يَكُنْ إِلَهًا فَإِذَا أَبْطَلْتُمْ هَذَا الطَّرِيقَ انْسَدَّ عَلَيْكُمْ بَابُ الْقَدْحِ فِي إِلَهِيَّةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّ الْعَالَمَ كُرَةٌ فَالْجِهَةُ الَّتِي هِيَ فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا هِيَ تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَاكِنِي ذَلِكَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْأَرْضِ وَبِالْعَكْسِ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْبُودُ مُخْتَصًّا بِجِهَةٍ فَتِلْكَ الْجِهَةُ وَإِنْ كَانَتْ فَوْقًا لِبَعْضِ النَّاسِ لَكِنَّهَا تَحْتٌ لِبَعْضٍ آخَرِينَ، وَبِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمَبْعُودُ تَحْتَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.
وَتَاسِعُهَا: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ١] مِنَ الْمُحْكَمَاتِ لَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute