للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ يَكُونَ بِالذَّاتِ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَا يُمَيِّزُ مِثْلًا عَنْ مِثْلٍ وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَلِمَ اخْتَصَّ بَعْضُهَا بِالصُّورَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَبَعْضُهَا بِالصُّورَةِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَبَعْضُهَا بِالنَّبَاتِيَّةِ وَبَعْضُهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ؟

فَثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ وَالْمُدَبِّرَ قَادِرٌ وَالْقَادِرُ لَا يُمْكِنُهُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُدَبِّرَ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي ذاته وفي صفاته وإلا لا فتقر إِلَى مُدَبِّرٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي قَادِرِيَّتِهِ وَعَالِمِيَّتِهِ وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَا يَتَخَصَّصُ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ الْبَعْضِ وَجَبَ [أَنْ] يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا فَظَهَرَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَبَّهَ عَلَى تَقْرِيرِهَا اسْتِنَادُ الْعَالَمِ إِلَى مُدَبِّرٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ وَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ عَالِمٌ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ فِرْعَوْنَ خَاطَبَ الِاثْنَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ رَبُّكُما ثُمَّ وَجَّهَ النِّدَاءَ إِلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النُّبُوَّةِ وَهَارُونُ وَزِيرُهُ وَتَابِعُهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ لِخُبْثِهِ يَعْلَمُ الرُّتَّةَ الَّتِي فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرَادَ اسْتِنْطَاقَهُ دُونَ أَخِيهِ لِمَا عَرَفَ مِنْ فَصَاحَتِهِ وَالرُّتَّةِ الَّتِي فِي لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزُّخْرُفِ: ٥٢] .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ أَيْ أَعْطَى خَلْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيَرْتَفِقُونَ بِهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَلْقِ الشَّكْلَ وَالصُّورَةَ الْمُطَابِقَةَ لِلْمَنْفَعَةِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ الشَّكْلَ الَّذِي يُطَابِقُ مَنْفَعَتَهُ وَمَصْلَحَتَهُ، وَقُرِئَ خَلَقَهُ صِفَةً لِلْمُضَافِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّه لَمْ يُخَلِّهِ مِنْ إِعْطَائِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَاعْلَمْ أَنَّ فِي ارْتِبَاطِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ عَلَى فِرْعَوْنَ أَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ قَالَ فِرْعَوْنُ: إِنْ كَانَ إِثْبَاتُ الْمَبْدَأِ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنَ الظُّهُورِ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى مَا أَثْبَتُوهُ وَتَرَكُوهُ؟ فَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَدَلَّ بِالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ قَدَحَ فِرْعَوْنُ فِي تِلْكَ الدَّلَالَةِ بِقَوْلِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي قُوَّةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنْ لَا يَكُونُوا غَافِلِينَ عَنْهَا فَعَارَضَ الْحُجَّةَ بِالتَّقْلِيدِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَدَّدَ بِالْعَذَابِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨] فَقَالَ فِرْعَوْنُ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَإِنَّهَا كَذَّبَتْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا عُذِّبُوا؟ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى فَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلًا ظَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ/ فَقَالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى فَخَافَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَزِيدَ فِي تَقْرِيرِ تِلْكَ الْحُجَّةِ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ صِدْقُهُ وَفَسَادُ طَرِيقِ فِرْعَوْنَ فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَأَنْ يَشْغَلَهُ بِالْحِكَايَاتِ فَقَالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَلَمْ يَلْتَفِتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ بَلْ قَالَ:

عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضِي بِأَحْوَالِهِمْ فَلَا أَشْتَغِلُ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى تَتْمِيمِ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَقَالَ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي صِحَّةِ هَذَا النظم، ثم هاهنا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ فَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الرَّبِّ كَيْفَ

<<  <  ج: ص:  >  >>