للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّامُ فِي خَبَرِ أَمْسَى، قَالَ ابْنُ جِنِّي أَنْشَدَنَا أَبُو عَلِيٍّ:

مَرُّوا عُجَالَى فَقَالُوا كَيْفَ صَاحِبُكُمْ ... فَقَالَ مَنْ سُئِلُوا أَمْسَى لَمَجْهُودَا

وَقَالَ قُطْرُبٌ وَسَمِعْنَا بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: أُرَاكَ الْمُسَالِمِيَّ وَإِنِّي رَأَيْتُهُ لَشَيْخًا وَزَيْدٌ واللَّه لَوَاثِقٌ بِكَ وَقَالَ كُثَيِّرٌ:

وَمَا زِلْتُ مِنْ لَيْلَى لَدُنْ أَنْ عَرَفْتُهَا ... لَكَالْهَائِمِ الْمُقْصَى بِكُلِّ بِلَادِ

وَقَالَ آخَرُ:

وَلَكِنَّنِي مِنْ حُبِّهَا لَعَمِيدُ

وَقَالَ الْمُعْتَرِضُ هَذِهِ الْأَشْعَارُ مِنَ الشَّوَاذِّ وَإِنَّمَا جَاءَتْ كَذَا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَجَلَّ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى عَنِ الضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا تَقَرَّرَ هَذَا الْكَلَامُ إِذَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبْتَدَأَ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ إِنْ وَجَبَ إِدْخَالُ اللَّامِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْخَبَرِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّامَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَوْصُوفِيَّةِ الْمُبْتَدَأِ بِالْخَبَرِ وَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ الْمُبْتَدَأِ وَصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَوَجَبَ دُخُولُهَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِحُكْمٍ فِي مَحَلٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا يُقَالُ هَذَا مُشْكِلٌ بِمَا إِذَا دَخَلَتْ إن على المبتدأ فإن هاهنا يَجِبُ إِدْخَالُ اللَّامِ عَلَى الْخَبَرِ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ حَاصِلٌ فِيهِ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّ لِلتَّأْكِيدِ وَاللَّامَ لِلتَّأْكِيدِ فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ لَزَيْدًا قَائِمٌ لَكُنَّا قَدْ أَدْخَلْنَا حَرْفَ التَّأْكِيدِ عَلَى حَرْفِ التَّأْكِيدِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَلَمَّا تَعَذَّرَ إِدْخَالُهَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَا جَرَمَ أَدْخَلْنَاهَا عَلَى الْخَبَرِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَدْخُلْ حَرْفُ إِنَّ عَلَى الْمُبْتَدَأِ كَانَتْ هَذِهِ الضَّرُورَةُ زَائِلَةً فَوَجَبَ إِدْخَالُ اللَّامِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَا يُقَالُ إِذَا جَازَ إِدْخَالُ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ:

مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِهِ ... كَالْيَوْمِ طَالَبَنِي أَنِيقٌ أَجْرَبُ

وَالْغَرَضُ بِهِ تَأْكِيدُ النَّفْيِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ حَرْفِ التَّأْكِيدِ عَلَى حَرْفِ التَّأْكِيدِ وَالْغَرَضُ بِهِ تَأْكِيدُ الْإِثْبَاتِ لِأَنَّا نَقُولُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ قَوْلَكَ زَيْدٌ قَائِمٌ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِمَوْصُوفِيَّةِ زَيْدٍ بِالْقِيَامِ فَإِذَا قُلْتَ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ فَكَلِمَةُ إِنَّ تُفِيدُ تَأْكِيدَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَلَوْ ذَكَرْتَ مُؤَكِّدًا آخَرَ مَعَ كَلِمَةِ إِنَّ صَارَ عَبَثًا، أَمَّا لَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُ فُلَانًا فَهَذَا لِلثُّبُوتِ فَإِذَا أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ حَرْفَ النَّفْيِ أَفَادَ حَرْفُ النَّفْيِ مَعْنَى النَّفْيِ وَلَا يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِإِفَادَةِ الْأَصْلِ فَكَيْفَ يُفِيدُ الزِّيَادَةَ فَإِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهِ حَرْفَ نَفْيٍ آخَرَ صَارَ الْحَرْفُ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ عَبَثًا فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَهَذَا مُنْتَهَى تَقْرِيرِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْكُلَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ النَّقْلُ وَالْقِيَاسُ فَالنَّقْلُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ فَكَيْفَ يُدْفَعُ بِهَا النَّقْلُ الظَّاهِرُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمُ اللَّامُ لَا يَحْسُنُ دُخُولُهَا عَلَى الْخَبَرِ إِلَّا إِذَا دَخَلَتْ كَلِمَةُ إِنَّ عَلَى الْمُبْتَدَأِ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: إِنْ وَقَعَتْ مَوْقِعَ نَعَمْ وَاللَّامُ فِي مَوْقِعِهَا وَالتَّقْدِيرُ نَعَمْ هَذَانِ لَهُمَا سَاحِرَانِ فَكَانَتِ اللَّامُ دَاخِلَةً عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَا عَلَى الْخَبَرِ. قَالَ: وَعَرَضْتُ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ فَارْتَضَيَاهُ وَذَكَرَا أَنَّهُ أَجْوَدُ مَا سَمِعْنَاهُ فِي هَذَا. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُوهٍ: الْوَجْهُ/ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ إِنَّمَا يَجُوزُ حَذْفُهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا مَعْلُومًا جَلِيًّا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ فِي حَذْفِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ ضَرْبٌ مِنْ تَكْلِيفِ عِلْمِ الْغَيْبِ لِلْمُخَاطَبِ وَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا فَقَدِ اسْتَغْنَى بِمَعْرِفَتِهِ عَنْ تَأْكِيدِهِ بِاللَّامِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>