الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَكْفِي فِي صِدْقِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى قَدْ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا مِنْ أَقْوَالِهِ، وَالْفَاسِقُ قَدِ ارْتَضَى اللَّه تَعَالَى قَوْلًا وَاحِدًا مِنْ أَقْوَالِهِ وَهُوَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه. فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّفَاعَةُ نَافِعَةً لَهُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى عَنْ ذَلِكَ النَّفْيِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
حُصُولُ الْإِذْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا، فَهَبْ أَنَّ الْفَاسِقَ قَدْ حَصَلَ فِيهِ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ أَذِنَ فِيهِ، وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ قُلْنَا: هَذَا الْقَيْدُ وَهُوَ أَنَّهُ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا كَافٍ فِي حُصُولِ الِاسْتِثْنَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٨] فَاكْتَفَى هُنَاكَ بِهَذَا الْقَيْدِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فَظَهَرَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَحْصُلُ الْإِذْنُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْقَيْدَانِ حَصَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَتَمَّ الْمَقْصُودُ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ وَمَنْ قَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الْمُرَادُ بِهِ الشَّافِعُ. قَالَ ذَلِكُ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهِ وَالْمَعْنَى لَا تَنْفَعُ شَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي أَنْ تَشْفَعَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ قَالَ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَعْنِي مَا بَيْنَ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَفِيهِ تَقْرِيعٌ لِمَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ لِيَشْفَعُوا لَهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْمَلَائِكَةَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ خَلْقِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ:
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَما خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْأَعْمَالِ وَما خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ يَعْلَمُ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ وَمَتَى تَكُونُ الْقِيَامَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي الْعِبَادِ وَمَا خَلْفَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أَيِ الْعِبَادُ لَا يُحِيطُونَ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ عِلْمًا. الثَّانِي: الْمُرَادُ لَا يُحِيطُونَ باللَّه عِلْمًا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ والأقرب هاهنا قَوْلُهُ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ ذَلِكَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ لِيُعْلَمَ أَنَّ سَائِرَ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ وَمَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْمُجَازَاةَ مَعْلُومٌ للَّه تَعَالَى.
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَعْنَاهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ اليوم تعنوا الْوُجُوهُ أَيْ تَذِلُّ وَيَصِيرُ الْمُلْكُ وَالْقَهْرُ للَّه تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ وَمِنْ/ لَفْظِ الْعَنْوِ أَخَذُوا الْعَانِي وَهُوَ الْأَسِيرُ، يُقَالُ: عَنَا يَعْنُو عَنَاءً إِذَا صَارَ أَسِيرًا وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى: الْوُجُوهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمُكَلَّفِينَ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَعَنَتِ مِنْ صِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ لَا مِنْ صِفَاتِ الْوُجُوهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ [الْغَاشِيَةِ: ٨، ٩] وَإِنَّمَا خَصَّ الْوُجُوهَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْخُضُوعَ بها يبين وفيها يظهر وتفسير لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ قَدْ تَقَدَّمَ،
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اطْلُبُوا اسْمَ اللَّه الْأَعْظَمَ فِي هَذِهِ السور الثلاث الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه» . قَالَ الرَّاوِي: فَوَجَدْنَا الْمُشْتَرِكَ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
فَبَيَّنَ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا يَصِحُّ الِامْتِنَاعُ مِمَّا يَنْزِلُ بِالْمَرْءِ مِنَ الْمُجَازَاةِ، وَأَنَّ حَالَهُ مُخَالِفَةٌ لِحَالِ الدُّنْيَا