للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَالَ: فَمَا نَجَاةُ الْعَبْدِ مِنَ الْهَلَكَةِ قَالَ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ، قَالَ: فَمَا يُزَيِّنُ الْمَرْءَ قَالَ: عِلْمٌ مَعَهُ حِلْمٌ قَالَ: فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ قَالَ: فَمَالٌ مَعَهُ كَرَمٌ قَالَ: فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ قَالَ: فَفَقْرٌ مَعَهُ صَبْرٌ قَالَ: فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ قَالَ: فَصَاعِقَةٌ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتُحْرِقُهُ فَضَحِكَ الْحُسَيْنُ وَرَمَى بِالصُّرَّةِ إِلَيْهِ.

أَمَّا الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ فِي فَضِيلَةِ الْعِلْمِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ صِفَةَ شَرَفٍ وَكَمَالٍ وَكَوْنَ الْجَهْلِ صِفَةَ نُقْصَانٍ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلْعُقَلَاءِ بِالضَّرُورَةِ وَلِذَلِكَ لَوْ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْعَالِمِ يَا جَاهِلُ فَإِنَّهُ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَ ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْجَاهِلِ يَا عَالِمُ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ شَرِيفٌ لِذَاتِهِ وَمَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَالْجَهْلَ نُقْصَانٌ لِذَاتِهِ وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ أَيْنَمَا وُجِدَ كَانَ صَاحِبُهُ مُحْتَرَمًا مُعَظَّمًا حَتَّى إِنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا رَأَى الْإِنْسَانَ احْتَشَمَهُ بَعْضَ الِاحْتِشَامِ وَانْزَجَرَ بِهِ بَعْضَ الِانْزِجَارِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنَ الْإِنْسَانِ وَكَذَلِكَ جَمَاعَةُ الرُّعَاةِ إِذَا رَأَوْا مِنْ جِنْسِهِمْ مَنْ كَانَ أَوْفَرَ عَقْلًا مِنْهُمْ وَأَغْزَرَ فَضْلًا فِيمَا هُمْ فِيهِ وَبِصَدَدِهِ انْقَادُوا لَهُ طَوْعًا فَالْعُلَمَاءُ إِذَا لَمْ يُعَانَدُوا كَانُوا رُؤَسَاءَ بِالطَّبْعِ عَلَى مَنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ كَانُوا يُعَانِدُونَ النبي صلى الله عليه وسلم فصدوه لِيَقْتُلُوهُ فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَيْهِ فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهُ رَوْعَةً وَهَيْبَةً فَهَابُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:

لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... كَانَتْ بَدَاهَتُهُ تُنْبِيكَ عَنْ خَبَرِ

وَأَيْضًا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْفَضِيلَةُ لِقُوَّتِهِ وَصَوْلَتِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يُسَاوِيهِ فِيهَا أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فَإِذَنْ تِلْكَ الْفَضِيلَةُ لَيْسَتْ إِلَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَزِيَّةِ/ النُّورَانِيَّةِ وَاللَّطِيفَةِ الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا صَارَ مُسْتَعِدًّا لِإِدْرَاكِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا وَالِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] وَأَيْضًا الْجَاهِلُ كَأَنَّهُ فِي ظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ لَا يَرَى شَيْئًا الْبَتَّةَ وَالْعَالِمُ كَأَنَّهُ يَطِيرُ فِي أَقْطَارِ الْمَلَكُوتِ وَيَسْبَحُ فِي بِحَارِ الْمَعْقُولَاتِ فَيُطَالِعُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَالْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ وَالْمُحَالَ ثُمَّ يَعْرِفُ انْقِسَامَ الْمُمْكِنِ إِلَى الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْجَوْهَرِ إِلَى الْبَسِيطِ وَالْمُرَكَّبِ وَيُبَالِغُ فِي تَقْسِيمِ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى أَنْوَاعِهَا وَأَنْوَاعِ أَنْوَاعِهَا وَأَجْزَائِهَا وَأَجْزَاءِ أَجْزَائِهَا وَالْجُزْءِ الَّذِي بِهِ يُشَارِكُ غَيْرَهُ وَالْجُزْءِ الَّذِي بِهِ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَعْرِفُ أَثَرَ كُلِّ شَيْءٍ وَمُؤَثِّرَهُ وَمَعْلُولَهُ وَعِلَّتَهُ وَلَازِمَهُ وَمَلْزُومَهُ وَكُلِّيَّهُ وَجُزْئِيَّهُ وَوَاحِدَهُ وَكَثِيرَهُ حَتَّى يَصِيرَ عَقْلُهُ كَالنُّسْخَةِ الَّتِي أُثْبِتَ فِيهَا جَمِيعُ الْمَعْلُومَاتِ بِتَفَاصِيلِهَا وَأَقْسَامِهَا فَأَيُّ سَعَادَةٍ فَوْقَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ كَذَلِكَ تَصِيرُ النُّفُوسُ الْجَاهِلَةُ عَالِمَةً فَتَصِيرُ تِلْكَ النَّفْسُ كَالشَّمْسِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَسَبَبًا لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ لِسَائِرِ النُّفُوسِ فَإِنَّهَا كَانَتْ كَامِلَةً ثُمَّ صَارَتْ مُكَمِّلَةً وَتَصِيرُ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النَّحْلِ: ٢] وَالْمُفَسِّرُونَ فَسَّرُوا هَذَا الرُّوحَ بِالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ بِلَا رُوحٍ مَيِّتٌ فَاسِدٌ فَكَذَا الرُّوحُ بِلَا عِلْمٍ مَيِّتٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: ٥٢] فَالْعِلْمُ رُوحُ الرُّوحِ وَنُورُ النُّورِ وَلُبُّ اللُّبِّ وَمِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ السَّعَادَةِ أَنَّهَا تَكُونُ بَاقِيَةً آمِنَةً عَنِ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ، فَإِنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْكُلِّيَّةَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الزَّوَالُ وَالتَّغَيُّرُ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السَّعَادَةُ فِي نِهَايَةِ الْجَلَالَةِ فِي ذَاتِهَا ثُمَّ إِنَّهَا بَاقِيَةٌ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ كَانَتْ لَا مَحَالَةَ أَكْمَلَ السِّعَادَاتِ وَأَيْضًا فَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا بُعِثُوا إِلَّا لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النَّحْلِ: ١٢٥] إِلَى آخِرِهِ، وَقَالَ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يُوسُفَ: ١٠٨] ثُمَّ خُذْ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ