فَيَقَعُ التَّرْكِيبُ فِي ذَاتِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فَاتِّخَاذُهُ لِلْوَلَدِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُمْكِنًا غَيْرَ وَاجِبٍ.
وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْإِلَهِيَّةِ وَيُدْخِلُهُ فِي حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَلِذَلِكَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ وَالْعُبُودِيَّةُ تُنَافِي الْوِلَادَةَ إِلَّا أَنَّهُمْ مُكْرَمُونَ مُفَضَّلُونَ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادِ وَقُرِئَ: مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ مِنْ سَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ أَسْبِقُهُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهُ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَقُولُونَ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَهُ فَلَا يَسْبِقُ قَوْلُهُمْ قَوْلَهُ، وَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ تَابِعٌ لِقَوْلِهِ فَعَمَلُهُمْ أَيْضًا كَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرِهِ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ لِهَذِهِ الطَّاعَةِ فَقَالَ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَلِمُوا كَوْنَهُ عَالِمًا بِظَوَاهِرِهِمْ هُمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ وَكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ. وَذَكَرَ/ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ مَا قَدَّمُوا وَمَا أَخَّرُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَثَانِيهَا: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الْآخِرَةُ وَمَا خَلْفَهُمُ الدُّنْيَا وَقِيلَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا:
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَمَا يَكُونُ بَعْدَ خَلْقِهِمْ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ فِي مَلَكُوتِهِ وَهُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَتَهُمْ فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِبَادَةَ وَكَيْفَ يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه تَعَالَى فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ لَمْ يَأْذَنِ اللَّه تَعَالَى لَهُ. ثُمَّ كَشَفَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أَيْ لِمَنْ هُوَ عِنْدَ اللَّه مَرْضِيٌّ: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أَيْ مِنْ خَشْيَتِهِمْ مِنْهُ، فَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمَفْعُولِ وَمُشْفِقُونَ خَائِفُونَ وَلَا يَأْمَنُونَ مَكْرَهُ
وَعَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ سَاقِطًا كَالْحِلْسِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه تَعَالَى»
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [النَّبَأِ: ٣٨] .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ فَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ذَلِكَ الْقَوْلَ فَإِنَّا نُجَازِي ذَلِكَ الْقَائِلَ بِهَذَا الْجَزَاءِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ أَوْ مَا قَالُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الصِّفَاتُ تَدُلُّ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ وَتُنَافِي الْوِلَادَةَ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا بَالَغُوا فِي الطَّاعَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقُولُونَ قَوْلًا وَلَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا بِأَمْرِهِ فَهَذِهِ صِفَاتٌ لِلْعَبِيدِ لَا صِفَاتُ الْأَوْلَادِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِأَسْرَارِ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَسْرَارَ اللَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ لَا هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ هِيَ نَفْسُ مَا ذَكَرَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: ١١٦] . وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَمَنْ يَكُنْ إِلَهًا أَوْ وَلَدًا لِلْإِلَهِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ عَلَى نِهَايَةِ الْإِشْفَاقِ وَالْوَجَلِ وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا مِنْ صِفَاتِ الْعَبِيدِ. وَخَامِسُهَا: نَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ حَالُ سَائِرِ الْعَبِيدِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَكَيْفَ يَصِحُّ كَوْنُهُمْ آلِهَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ لَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ إِنَّ اللَّه يَرْتَضِيهِمْ. وَالْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَالضَّحَّاكُ: إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أَيْ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ لَنَا فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَقَدِ ارْتَضَاهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَمَتَى صَدَقَ عليه أنه