وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ طَالُوتَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٧] فَقَدَّمَ الْعِلْمَ عَلَى الْجِسْمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ سَائِرِ النِّعَمِ سَعَادَةُ الْبَدَنِ، فَسَعَادَةُ الْبَدَنِ أَشْرَفُ مِنَ السَّعَادَةِ الْمَالِيَّةِ فَإِذَا كَانَتِ السَّعَادَةُ الْعِلْمِيَّةُ رَاجِحَةً عَلَى السَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً عَلَى السَّعَادَةِ الْمَالِيَّةِ.
وَقَالَ يُوسُفُ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُفَ: ٥٥] وَلَمْ يَقُلْ إِنِّي حَسِيبٌ نَسِيبٌ فَصِيحٌ مَلِيحٌ، وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ
فِي الْخَبَرِ «الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ»
إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ، وَإِنْ قَاتَلَ قَاتَلَ بِجَنَانِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
/ لِسَانُ الْفَتَى نَصِفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ عَذَابَ الْجَهْلِ عَلَى عَذَابِ النَّارِ فَقَالَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٥، ١٦] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعُلُومُ مَطَالِعُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، قَلْبٍ مُتَفَكِّرٍ، وَلِسَانٍ مُعَبِّرٍ، وَبَيَانٍ مُصَوِّرٍ،
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «عَيْنُ الْعِلْمِ مِنَ الْعُلُوِّ، وَلَامُهُ مِنَ اللُّطْفِ، وَمِيمُهُ مِنَ الْمُرُوءَةِ»
وَأَيْضًا قِيلَ الْعُلُومُ عَشْرَةٌ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ لِلْأَدْيَانِ، وَعِلْمُ السِّرِّ لِرَدِّ الشَّيْطَانِ، وَعِلْمُ الْمُعَاشَرَةِ لِلْإِخْوَانِ، وَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ لِلْأَرْكَانِ، وَعِلْمُ النُّجُومِ لِلْأَزْمَانِ، وَعِلْمُ الْمُبَارَزَةِ لِلْفُرْسَانِ، وَعِلْمُ السِّيَاسَةِ لِلسُّلْطَانِ، وَعِلْمُ الرُّؤْيَا لِلْبَيَانِ، وَعِلْمُ الْفِرَاسَةِ لِلْبُرْهَانِ، وَعِلْمُ الطِّبِّ لِلْأَبْدَانِ، وَعِلْمُ الْحَقِيقَةِ لِلرَّحْمَنِ، وَأَيْضًا قِيلَ ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي الْعِلْمِ بِالْمَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً [البقرة: ٢٢] وَالْمِيَاهُ أَرْبَعَةٌ: مَاءُ الْمَطَرِ، وَمَاءُ السَّيْلِ، وَمَاءُ الْقَنَاةِ، وَمَاءُ الْعَيْنِ فَكَذَا الْعُلُومُ أَرْبَعَةٌ عِلْمُ التَّوْحِيدِ كَمَاءِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ تَحْرِيكُهُ لِئَلَّا يَتَكَدَّرَ، وَكَذَا لَا يَنْبَغِي طَلَبُ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِئَلَّا يَحْصُلَ الْكُفْرُ. وَعِلْمُ الْفِقْهِ يَزْدَادُ بِالِاسْتِنْبَاطِ كَمَاءِ الْقَنَاةِ يَزْدَادُ بِالْحَفْرِ، وَعِلْمُ الزُّهْدِ كَمَاءِ الْمَطَرِ يَنْزِلُ صَافِيًا وَيَتَكَدَّرُ بِغُبَارِ الْهَوَاءِ كَذَلِكَ عِلْمُ الزُّهْدِ صَافٍ وَيَتَكَدَّرُ بِالطَّمَعِ وَعِلْمُ الْبِدَعِ كَمَاءِ السَّيْلِ يُمِيتُ الْأَحْيَاءَ وَيُهْلِكُ الْخَلْقَ فَكَذَا الْبِدَعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي أَقْوَالِ النَّاسِ فِي حَدِّ الْعِلْمِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْعِلْمُ مَا يُعْلَمُ بِهِ وَرُبَّمَا قَالَ مَا يَصِيرُ الذَّاتُ بِهِ عَالِمًا وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعَالِمَ وَالْمَعْلُومَ لَا يُعْرَفَانِ إِلَّا بِالْعِلْمِ فَتَعْرِيفُ الْعِلْمِ بِهِمَا دَوْرٌ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ عِلْمَ الإنسان بكونه عالماً بنفسه وبألمه ولذاته عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِلْمٌ بِأَصْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الْمَاهِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ فَكَانَ عِلْمُهُ بِكَوْنِ الْعِلْمِ عِلْمًا علم ضروري فَكَانَ الدَّوْرُ سَاقِطًا وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِهِ إِذَا ذَكَرْنَا مَا نَخْتَارُهُ نَحْنُ فِي هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا قَالَ الْعِلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ تَعْرِيفُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ فَيَعُودُ الدَّوْرُ أَيْضًا فَالْمَعْرِفَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا وَفْقَ الْمَعْلُومِ فَقَوْلُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَعْرِفَةِ يَكُونُ حَشْوًا، أَمَّا قَوْلُهُ الْعِلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَفِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْخَلَلِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ فَتَعْرِيفُهُ بِهَا تَعْرِيفٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بَعْدَ الِالْتِبَاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ مَا كُنْتُ أَعْرِفُ فُلَانًا وَالْآنَ فَقَدْ عَرَفْتُهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَارِفٌ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَسْتَدْعِي سَبْقَ الْجَهْلِ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ: الْعِلْمُ تَبْيِينُ الْمَعْلُومِ وَرُبَّمَا قَالَ إِنَّهُ اسْتِبَانَةُ الْحَقَائِقِ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى التَّبْيِينِ فَقَالَ الْعِلْمُ هُوَ التَّبْيِينُ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ أَمَّا قَوْلُ الْعِلْمِ هُوَ التَّبْيِينُ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَبْدِيلُ لَفْظٍ بِلَفْظٍ أَخْفَى مِنْهُ وَلِأَنَّ التَّبْيِينَ وَالِاسْتِبَانَةَ يُشْعِرَانِ بِظُهُورِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْخَفَاءِ وذلك
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute