للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْإِعَادَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَقًّا عَلَيْنَا بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ وَتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ مَعَ أَنَّ وُقُوعَ مَا عَلِمَ اللَّه وُقُوعَهُ وَاجِبٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أَيْ سَنَفْعَلُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْوَعْدِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا يَعْنِي الزَّبُورِ كَالْحَلُوبِ وَالرَّكُوبِ يُقَالُ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ أَيْ كتبته والمزبور بِضَمِّ الزَّايِ جَمْعُ زِبْرٍ كَقِشْرٍ وَقُشُورٍ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ الزَّبُورَ هُوَ الْكِتَابُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الزَّبُورِ وَالذِّكْرِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَابْنِ زَيْدٍ الزَّبُورُ هُوَ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ وَالذِّكْرُ الْكِتَابُ الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ فِي السَّمَاءِ، لِأَنَّ فِيهَا كِتَابَةَ كُلِّ مَا سَيَكُونُ اعْتِبَارًا لِلْمَلَائِكَةِ وَكُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ تُنْسَخُ. وَثَانِيهَا: الزَّبُورُ هُوَ الْقُرْآنُ وَالذِّكْرُ هُوَ التَّوْرَاةُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ. وَثَالِثُهَا: الزَّبُورُ زَبُورُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالذِّكْرُ هُوَ الَّذِي

يُرْوَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: كَانَ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الذِّكْرَ.

وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْعِلْمُ أَيْ كَتَبْنَا ذَلِكَ فِي الزَّبُورِ بَعْدَ أَنْ كُنَّا عَالِمِينَ عِلْمًا لَا يَجُوزُ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ عَلَيْنَا، فَإِنَّ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا وَالْتَزَمَهُ وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ السَّهْوُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالْخُلْفُ فَإِذَا الْتَزَمَ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْأَرْضُ أَرْضُ الْجَنَّةِ وَالْعِبَادُ الصَّالِحُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعَامِلُونَ بِطَاعَةِ اللَّه تَعَالَى فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى كَتَبَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهُ سَيُورِثُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ صَالِحًا مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَهَؤُلَاءِ أَكَّدُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأُمُورٍ: أَمَّا أَوَّلًا: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ/ الْعامِلِينَ [الزُّمَرِ: ٧٤] ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الصَّالِحُونَ لِأَنَّهَا لَهُمْ خُلِقَتْ، وَغَيْرُهُمْ إِذَا حَصَلَ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَعَلَى وَجْهِ التَّبَعِ، فَأَمَّا أَرْضُ الدُّنْيَا فَلِأَنَّهَا لِلصَّالِحِ وَغَيْرِ الصَّالِحِ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ الْإِعَادَةِ وَبَعْدَ الْإِعَادَةِ الْأَرْضُ الَّتِي هَذَا وَصْفُهَا لَا تَكُونُ إِلَّا الْجَنَّةَ. وَأَمَّا رَابِعًا:

فَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهَا أَرْضُ الْجَنَّةِ فَإِنَّهَا بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ.

وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَرْضِ أَرْضُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَيُورِثُهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: ٥٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الْأَعْرَافِ: ١٢٨] . وَثَالِثُهَا: هِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ يَرِثُهَا الصَّالِحُونَ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الْأَعْرَافِ: ١٣٧] ثُمَّ بِالْآخِرَةِ يُورِثُهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ فَقَوْلُهُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَوَاعِظِ الْبَالِغَةِ وَالْبَلَاغُ الْكِفَايَةُ وَمَا تُبْلَغُ بِهِ الْبُغْيَةُ وَقِيلَ فِي الْعَابِدِينَ إِنَّهُمُ الْعَالِمُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>