للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَأَنْ لَا يَسْجُدَ: وَثَانِيهَا: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يُظَنُّ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا وَلَكِنِّي لِعِلْمِي بِالْأَسْرَارِ الْمُغَيَّبَةِ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ خَلْقًا عَجِيبًا فَقَالُوا لِيَكُنْ مَا شَاءَ فَلَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ فَهَذَا الَّذِي كَتَمُوا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ سِرًّا أَسَرُّوهُ بَيْنَهُمْ فَأَبْدَاهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَأَسَرُّوهُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْوَاحِدِ إِبْدَاءٌ وَكِتْمَانٌ. وَرَابِعُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْأَقْسَامَ خَمْسَةٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مَحْضًا أَوْ شَرًّا مَحْضًا أَوْ مُمْتَزِجًا وَعَلَى تَقْدِيرِ الِامْتِزَاجِ فإما أن يعتدل الأمران أَوْ يَكُونَ الْخَيْرُ غَالِبًا أَوْ يَكُونَ الشَّرُّ غَالِبًا أَمَّا الْخَيْرُ الْمَحْضُ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إِيجَادَهُ وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْخَيْرُ غَالِبًا فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إِيجَادَهُ لِأَنَّ تَرْكَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ فَالْمَلَائِكَةُ ذَكَرُوا الْفَسَادَ وَالْقَتْلَ وَهُوَ شَرٌّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ فَقَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَأَعْرِفُ أَنَّ خَيْرَهُمْ غَالِبٌ عَلَى هَذِهِ الشُّرُورِ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُمْ وَتَكْوِينَهُمْ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَوْفًا عَظِيمًا وَفَرَحًا عَظِيمًا أَمَّا الْخَوْفُ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ الضَّمَائِرِ فَيَجِبُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْمَرْءُ فِي تَصْفِيَةِ بَاطِنِهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ/ بِحَيْثُ يَتْرُكُ الْمَعْصِيَةَ لِاطِّلَاعِ الْخَلَائِقِ عَلَيْهَا وَلَا يَتْرُكُهَا عِنْدَ اطِّلَاعِ الْخَالِقِ عَلَيْهَا وَالْأَخْبَارُ مُؤَكِّدَةٌ لِذَلِكَ. أَحَدُهَا:

رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «يُؤْتَى بِنَاسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَوَجَدُوا رَائِحَتَهَا وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا نُودُوا أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا فَيَرْجِعُونَ عَنْهَا بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ أَحَدٌ بِمِثْلِهَا وَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لِأَوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا: فَنُودُوا ذَاكَ أَرَدْتُ لَكُمْ كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ وَإِذَا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ بِالْمَحَبَّةِ مُخْبِتِينَ تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخِلَافِ مَا تُضْمِرُونَ عَلَيْهِ فِي قُلُوبِكُمْ هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي أَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي تَرَكْتُمُ الْمَعَاصِيَ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوهَا لِأَجْلِي كُنْتُ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ عَلَيْكُمْ فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ أَلِيمَ عَذَابِي مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنَ النَّعِيمِ

وَثَانِيهَا: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ لِحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: عِظْنِي فَقَالَ إِنْ كُنْتَ إِذَا عَصَيْتَ اللَّهَ خَالِيًا ظَنَنْتَ أَنَّهُ يَرَاكَ فَلَقَدِ اجْتَرَأْتَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ فَلَقَدْ كَفَرْتَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: طَهِّرْ نَفْسَكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِذَا كُنْتَ عَامِلًا بِالْجَوَارِحِ فَاذْكُرْ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَإِذَا كُنْتَ قَائِلًا فَاذْكُرْ سَمْعَ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِذَا كُنْتَ سَاكِتًا عَامِلًا بِالضَّمِيرِ فاذكر على اللَّهِ بِكَ إِذْ هُوَ يَقُولُ: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦] . وَرَابِعُهَا: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَى أَسْرَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْمَلَائِكَةُ وَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى الْفَسَادِ وَالْقَتْلِ فَاسْتَحْقَرُوا الْبَشَرَ. وَوَقَعَ نَظَرُهُمْ عَلَى طَاعَةِ إِبْلِيسَ فَاسْتَعْظَمُوهُ، أما علام الغيوب فإنه كان عالماً بأنه وَإِنْ أَتَوْا بِالْفَسَادِ وَالْقَتْلِ لَكِنَّهُمْ سَيَأْتُونَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] وَأَنَّ إِبْلِيسَ وَإِنْ أَتَى بِالطَّاعَاتِ لَكِنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَقْلِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يَرَاهُ وَأَنْ يَكُونَ أَبَدًا فِي الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ معناه أن الَّذِي أَعْرِفُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَالْوَاقِعَ وَالْمُتَوَقَّعَ وَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا تَرَوْنَهُ عَابِدًا مُطِيعًا سَيَكْفُرُ وَيَبْعُدُ عَنْ حَضْرَتِي، وَمَنْ تَرَوْنَهُ فَاسِقًا بَعِيدًا سَيَقْرُبُ مِنْ خِدْمَتِي، فَالْخَلْقُ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ حِجَابِ الْجَهْلِ وَلَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ أَنْ يَخْرِقُوا أَسْتَارَ الْعَجْزِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّقَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَعَجْزِ الْمَلَائِكَةِ أَنْ أَظْهَرَ مِنَ البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة