للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثَّالِثَةُ: يَرْجِعُ حَاصِلُ الْبَحْثِ إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ عَصَمَهُمْ عَنِ الْخَطَأِ مَعَ الْعِلْمِ فَلَمْ يَعْصِمْهُمْ مِنْ جَوَازِ السَّهْوِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ بَلْ حَالُهُمْ فِي جَوَازِ ذَلِكَ كَحَالِ سَائِرِ الْبَشَرِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يُتَّبَعُوا إِلَّا فِيمَا يَفْعَلُونَهُ عَنْ عِلْمٍ فَذَلِكَ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ نَبِيًّا إِلَّا إِذَا تَمَنَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى الْبَشَرِ مَلَكًا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ نَبِيًّا إِلَّا مِنْهُمْ، وَمَا أَرْسَلْنَا نَبِيًّا خَلَا عِنْدَ تِلَاوَتِهِ الْوَحْيَ مِنْ وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يُضَادُّ الْوَحْيَ وَيَشْغَلُهُ عَنْ حِفْظِهِ فَيُثَبِّتُ اللَّه النَّبِيَّ عَلَى الْوَحْيِ وَعَلَى حِفْظِهِ وَيُعْلِمُهُ صَوَابَ ذَلِكَ وَبُطْلَانَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ وفيما تقدم من قوله:

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ تَقْوِيَةٌ لِهَذَا التَّأْوِيلِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْكَافِرِينَ أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ لَكِنِّي مِنَ الْبَشَرِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يُرْسِلِ اللَّه تَعَالَى مِثْلِي مَلَكًا بَلْ أَرْسَلَ رِجَالًا فَقَدْ وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ السَّهْوُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، قُلْنَا إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ أَعْظَمَ دَرَجَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَلْزَمْ مِنِ اسْتِيلَائِهِمْ بِالْوَسْوَسَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ اسْتِيلَاؤُهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ حَالَ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِبَحْثَيْنِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: كَيْفِيَّةُ إِزَالَتِهَا وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فَالْمُرَادُ إِزَالَتُهُ وَإِزَالَةُ تَأْثِيرِهِ فَهُوَ النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ لَا النَّسْخُ الشَّرْعِيُّ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْأَحْكَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ فَإِذَا حُمِلَ التَّمَنِّي عَلَى الْقِرَاءَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَإِلَّا فَيُحْمَلُ عَلَى أَحْكَامِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا الْغَلَطُ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَثَرَ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَحَ أَثَرَهَا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ أَوَّلًا ثُمَّ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ ثَانِيًا، أَمَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَهُوَ قَوْلُهُ: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً وَالْمُرَادُ بِهِ تَشْدِيدُ التَّبْعِيدِ لأن عند ما يَظْهَرُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاشْتِبَاهُ فِي الْقُرْآنِ سَهْوًا يَلْزَمُهُمُ الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ لِيُمَيِّزُوا السَّهْوَ مِنَ الْعَمْدِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْعَمْدَ صَوَابٌ وَالسَّهْوَ قَدْ لَا يَكُونُ صَوَابًا.

أَمَّا قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فَفِيهِ سُؤَالَانِ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَلِمَ خَصَّهُمْ بِذَلِكَ الْجَوَابِ: لِأَنَّهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى ذَلِكَ التَّدَبُّرِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ تَقَدَّمَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّدَبُّرِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَرَضُ الْقَلْبِ الْجَوَابُ: أَنَّهُ الشَّكُّ وَالشُّبْهَةُ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ كَمَا قَالَ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَأَمَّا الْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمْ فَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ يُرِيدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَأَصْلُهُ وَإِنَّهُمْ، فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ قَضَاءً عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ وَالشِّقَاقِ وَالْمُشَاقَّةِ وَالْمُعَادَاةِ وَالْمُبَاعَدَةِ سَوَاءٌ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَفِي الْكِنَايَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى نَسْخِ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ، عَنِ الْكَلْبِيِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ الْحَقُّ أَيِ الْقُرْآنُ عَنْ مُقَاتِلٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَمَكُّنَ الشَّيْطَانِ مِنْ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ هُوَ الْحَقُّ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيَّ شَيْءٍ فَعَلَ فَقَدْ تَصَرَّفَ فِي مُلْكِهِ وَمِلْكِهِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا فَكَانَ حَقًّا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ فَتَكُونُ كُلُّ أَفْعَالِهِ صَوَابًا فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أَيْ تَخْضَعُ وَتَسْكُنُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَقْضِيَّ كَائِنٌ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خلق له، وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>