للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خَيْرُ الرَّازِقِينَ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مَمْدُوحِينَ وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ فِي كَوْنِ الْعَبْدِ قَادِرًا، فَإِنَّ عِنْدَنَا الْقُدْرَةَ مَعَ الدَّاعِي مُؤَثِّرَةٌ فِي الْفِعْلِ بِمَعْنَى الِاسْتِلْزَامِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَبَحْثٌ لَفْظِيٌّ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.

المسألة الْخَامِسَةُ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْوَعْدِ، ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حَالَ الْمَقْتُولِ فِي الْجِهَادِ وَالْمَيِّتِ عَلَى فِرَاشِهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا إِنْ أَخَذُوهُ مِنَ الظَّاهِرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَعْدِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلٍ وَلَا تَسْوِيَةٍ، كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَخَذُوهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَهُوَ حَقٌّ، فَإِنَّهُ

رَوَى أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُتَوَفَّى فِي سَبِيلِ اللَّه بِغَيْرِ قَتْلٍ، هُمَا فِي الْخَيْرِ وَالْأَجْرِ شَرِيكَانِ»

وَلَفْظُ الشَّرِكَةِ مُشْعِرٌ بِالتَّسْوِيَةِ، وَإِلَّا فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهِمَا بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ.

وَرُوِيَ أَيْضًا: أَنَّ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا قَدْ عَلِمْنَا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّه مِنَ الْخَيْرِ، وَنَحْنُ نُجَاهِدُ مَعَكَ كَمَا جَاهَدُوا، فَمَا لَنَا إِنْ مِتْنَا مَعَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِقْدَارَ الْأَجْرِ، فَلَوْلَا التَّسْوِيَةُ لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ مُفِيدًا. أَمَّا الْمَسْكَنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: قُرِئَ مُدْخَلًا بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مِنَ الْإِدْخَالِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَالْمُرَادُ الْمَوْضِعُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قِيلَ فِي الْمُدْخَلِ الَّذِي يَرْضَوْنَهُ إِنَّهُ خَيْمَةٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَا فَصْمَ فِيهَا وَلَا وَصْمَ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مِصْرَاعٍ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ هُوَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ مَكْرُوهٍ تَقَدَّمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّمَا قَالَ يَرْضَوْنَهُ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ/ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَيَرْضَوْنَهُ وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها [التَّوْبَةِ: ٢٤] وَقَوْلُهُ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: ٢١] وَقَوْلُهُ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: ٢٨] وَقَوْلُهُ: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَةِ: ٧٢] .

المسألة الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وَمَا تَعَلُّقُهُ بِمَا تَقَدَّمَ؟ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ فَيَفْعَلُهُ بِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَرْضَوْنَهُ فَيُعْطِيهِمْ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْحَلِيمُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لِحِلْمِهِ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، بَلْ يُمْهِلُ لِيَقَعَ مِنْهُ التَّوْبَةُ فَيَسْتَحِقَّ مِنْهُ الْجَنَّةَ.

أَمَّا قَوْلُهُ: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذلِكَ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيِ الْأَمْرُ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ إِنْجَازِ الْوَعْدِ لِلْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ: قَاتَلَ مَنْ كَانَ يُقَاتِلُهُ، ثُمَّ كَانَ الْمُقَاتِلُ مَبْغِيًّا عَلَيْهِ بِأَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْهِجْرَةِ وَمُفَارَقَةِ الْوَطَنِ وَابْتُدِئَ بِالْقِتَالِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَقُوا قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ، فَنَاشَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ، فَأَبَوْا وَقَاتَلُوهُمْ. فَذَلِكَ بَغْيُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فَنُصِرُوا عَلَيْهِمْ. فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقِتَالِ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>