عَالِمٌ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَيَقَعُ الْحُكْمُ مِنْهُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ لَا بِالْجَوْرِ فَقَالَ لِرَسُولِهِ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ هُوَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لَكِنَّ مَعْنَاهُ تَقْوِيَةُ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَعْدُ لَهُ وَإِيعَادُ الْكَافِرِينَ بِأَنَّ كُلَّ فِعْلِهِمْ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّه لَا يَضِلُّ عَنْهُ وَلَا يَنْسَى.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ سَائِرُ الْعِبَادِ وَلِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تَثْبُتُ/ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ إِذْ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْكَاذِبُ بِالصَّادِقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إِظْهَارُ الْمُعْجِزِ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُولُ عَالِمًا بِذَلِكَ. فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مَعَ الْغَيْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ مَعْنَى الْكِتَابِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ وَالشَّدُّ يُقَالُ كَتَبْتُ الْمَزَادَةَ أَكْتُبُهَا إِذَا خَرَزْتُهَا فَحَفِظْتُ بِذَلِكَ مَا فِيهَا، وَمَعْنَاهُ وَمَعْنَى الْكِتَابِ بَيْنَ النَّاسِ حِفْظُ مَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ عِنْدَهُ وَالتَّالِي وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ كُلَّ مَا يحدثه اللَّه في السموات وَالْأَرْضِ فَقَدْ كَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا نَظَرًا إِلَى الِاشْتِقَاقِ لَكِنَّ الْوَاجِبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكِتَابَ هُوَ مَا تُكْتَبُ فِيهِ الْأُمُورُ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُوهِمُ ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْكِتَابِ وَأَيْضًا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كَتْبَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مَعَ كَوْنِهَا مُطَابِقَةً لِلْمَوْجُودَاتِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ فِي عِلْمِهِ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْظُرُونَ فِيهِ ثُمَّ يَرَوْنَ الْحَوَادِثَ دَاخِلَةً فِي الْوُجُودِ عَلَى وَفْقِهِ فَصَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا لَهُمْ زَائِدًا عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ كَتْبَهُ جُمْلَةَ الْحَوَادِثِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْغَيْبِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْخَلْقِ لَكِنَّهَا بِحَيْثُ مَتَى أَرَادَهَا اللَّه تَعَالَى كَانَتْ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَسِيرٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَصْفُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِينَا مِنْ حَيْثُ تَسْهُلُ وَتَصْعُبُ عَلَيْنَا الْأُمُورُ، وَتَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يُقْدِمُ الْكُفَّارُ عَلَيْهِ مَعَ عَظِيمِ نِعَمِهِ، وَوُضُوحِ دَلَائِلِهِ. فَقَالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَبَيَّنَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً عَنْ دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَلَا عَنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ عَنْ تَقْلِيدٍ أَوْ جَهْلٍ أَوْ شُبْهَةٍ، فَوَجَبَ فِي كُلِّ قَوْلٍ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، فَمِنْ هَذَا الوجه يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ كَافِرًا، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَحَدٌ يَنْتَصِرُ لَهُمْ مِنَ اللَّه كَمَا قَدْ تَتَّفِقُ النُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي: مَا لَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ نَاصِرٌ بِالحجة فَإِنَّ الحجة لَيْسَتْ إِلَّا لِلْحَقِّ، وَاحْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ يَعْنِي مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْقُرْآنُ، وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا بَيِّنَاتٌ لِكَوْنِهَا مُتَضَمِّنَةً لِلدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ جَهْلِهِمْ إِذَا نُبِّهُوا عَلَى الْأَدِلَّةِ وَعُرِضَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute