جَاهَدُوا أَوَّلًا فَقَدْ كَانَ جِهَادُهُمْ فِي الْأَوَّلِ أَقْوَى وَكَانُوا فِيهِ أَثْبَتَ نَحْوَ صُنْعِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا كُنَّا نَقْرَأُ وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا جَاهَدْتُمُوهُ فِي أَوَّلِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمَتَى ذَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ إِذَا كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ الْأُمَرَاءَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ الْوُزَرَاءَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِلَّا لَنُقِلَ كَنَقْلِ نَظَائِرِهِ، وَلَعَلَّهُ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ فَإِنَّمَا قَالَهُ كَالتَّفْسِيرِ لِلْآيَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ: وَجَاهِدُوا فِي اللَّه حَقَّ جِهَادِهِ كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَقَالَ عُمَرُ مَنِ الَّذِي أُمِرْنَا بِجِهَادِهِ؟ فَقَالَ قَبِيلَتَانِ مِنْ قُرَيْشٍ مَخْزُومٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ، فَقَالَ صَدَقْتَ وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقَّ جِهَادِهِ، لَا تَخَافُوا فِي اللَّه لَوْمَةَ لَائِمٍ وَالرَّابِعُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: وَاعْمَلُوا للَّه حَقَّ عَمَلِهِ وَالْخَامِسُ: اسْتَفْرِغُوا وُسْعَكُمْ فِي إِحْيَاءِ دِينِ اللَّه وَإِقَامَةِ حُقُوقِهِ بِالْحَرْبِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَجَمِيعِ مَا يُمْكِنُ وَرُدُّوا أَنْفُسَكُمْ عَنِ الْهَوَى وَالْمَيْلِ وَالوجه السَّادِسُ: قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَكِ: حَقَّ جِهَادِهِ، مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَالْهَوَى.
وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»
وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ التَّكَالِيفِ، فَكُلُّ مَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ جِهَادٌ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: هَلْ يَصِحُّ مَا نُقِلَ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التَّغَابُنِ: ١٦] كَمَا أَنَّ قَوْلُهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٢] مَنْسُوخٌ بِذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] فَكَيْفَ يَقُولُ اللَّه وَجَاهِدُوا فِي اللَّه عَلَى وَجْهٍ لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ كَانَ الْجِهَادُ فِي الْأَوَّلِ مُضَيَّقًا حَتَّى لَا يَصِحَّ أَنْ يَفِرَّ الْوَاحِدُ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ خَفَّفَهُ اللَّه بِقَوْلِهِ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الْأَنْفَالِ: ٦٦] أَفَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُطَاقُ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ.
النوع الثَّالِثُ: بَيَانُ مَا يُوجِبُ قَبُولَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: هُوَ اجْتَباكُمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ تَشْرِيفٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلْعَبْدِ، فَلَمَّا خَصَّكُمْ بِهَذَا التَّشْرِيفِ فَقَدْ خَصَّكُمْ بِأَعْظَمِ التَّشْرِيفَاتِ وَاخْتَارَكُمْ لِخِدْمَتِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِطَاعَتِهِ، فَأَيُّ رُتْبَةٍ أَعْلَى مِنْ هَذَا، وَأَيُّ سَعَادَةٍ فَوْقَ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ فِي اجْتَبَاكُمْ خَصَّكُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّيْسِيرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فَهُوَ كَالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ يُذْكَرُ وَهُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ وَإِنْ كَانَ تَشْرِيفًا وَاجِبًا كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهُ شَاقٌّ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ؟ فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ كَيْفَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مَعَ أَنَّهُ مَنَعَنَا عَنِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: بَلَى وَلَكِنَّ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وُضِعَ عَنْكُمْ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحَرَجُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ؟ الْجَوَابُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ هُذَيْلٍ مَا تَعُدُّونَ الْحَرَجَ فِيكُمْ؟ قَالَ الضِّيقُ،
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذَلِكَ فَقَالَ الضِّيقُ» .
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْحَرَجِ فِي الْآيَةِ؟ الْجَوَابُ: قِيلَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالرُّخَصِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا فَلْيُصَلِّ جَالِسًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ فليؤم، وَأَبَاحَ لِلصَّائِمِ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وَالْقَصْرَ فِيهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَبْتَلِ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَّا وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا مِنْهَا إِمَّا بِالتَّوْبَةِ أَوْ بِالْكَفَّارَةِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّه
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute