الْأَحْوَالِ فِي الْمَرَضِ وَالْهَرَمِ وَأَنْوَاعِ الْآفَاتِ، أَوْلَى أَنْ لَا يَتَمَرَّدُوا فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ التَّفَاوُتِ كَافٍ فِي صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَلَا نِزَاعَ في حصول التفاوت في هذه الْمَعْنَى، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الثَّوَابِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَلِكُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ؟ مَعَ أَنَّ الْمُتَبَادِرَ إِلَى الْفَهْمِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: عِبَادَاتُ الْمَلَائِكَةِ أَشَقُّ مِنْ عِبَادَاتِ الْبَشَرِ، فَتَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْ عِبَادَاتِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا أَشَقُّ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَيْلَهُمْ إِلَى التَّمَرُّدِ أَشَدُّ فَتَكُونُ طَاعَتُهُمْ أَشَقَّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا:
إِنَّ مَيْلَهُمْ إِلَى التَّمَرُّدِ أَشَدُّ، لِأَنَّ الْعَبْدَ السَّلِيمَ مِنَ الْآفَاتِ، الْمُسْتَغْنِيَ عَنْ طَلَبِ الْحَاجَاتِ، يَكُونُ أَمْيَلَ إِلَى النِّعَمِ وَالِالْتِذَاذِ مِنَ الْمَغْمُورِ فِي الْحَاجَاتِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْمُضْطَرِبِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: ٦٥] ومعلوم أن الملائكة سكان السموات وَهِيَ جَنَّاتٌ وَبَسَاتِينُ وَمَوَاضِعُ التَّنَزُّهِ وَالرَّاحَةِ وَهُمْ آمِنُونَ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ اسْتِكْمَالِ أَسْبَابِ التَّنَعُّمِ لَهُمْ أَبَدًا مُذْ خُلِقُوا مُشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَةِ خَاشِعُونَ وَجِلُونَ مُشْفِقُونَ كَأَنَّهُمْ مَسْجُونُونَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى نَعِيمِ الْجِنَانِ/ وَاللَّذَّاتِ بَلْ هُمْ مُقْبِلُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ الشَّاقَّةِ مَوْصُوفُونَ بِالْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَالْفَزَعِ الْعَظِيمِ وَكَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ يَوْمًا وَاحِدًا فَضْلًا عَنْ تِلْكَ الْأَعْصَارِ الْمُتَطَاوِلَةِ وَيُؤَكِّدُهُ قِصَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ لَهُ في جَمِيعَ مَوَاضِعِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [الْبَقَرَةِ: ٣٥] ثُمَّ مُنِعَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ حَتَّى وَقَعَ فِي الشَّرِّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَتَهُمْ أَشَقُّ مِنْ طَاعَاتِ الْبَشَرِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ انْتِقَالَ الْمُكَلَّفِ مِنْ نَوْعِ عِبَادَةٍ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ كَالِانْتِقَالِ مِنْ بُسْتَانٍ إِلَى بُسْتَانٍ، أَمَّا الْإِقَامَةُ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا تُورِثُ الْمَشَقَّةَ وَالْمَلَالَةَ وَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَتِ التَّصَانِيفُ مَقْسُومَةً بِالْأَبْوَابِ وَالْفُصُولِ، وَجُعِلَ كِتَابُ اللَّهِ مَقْسُومًا بِالسُّوَرِ وَالْأَحْزَابِ وَالْأَعْشَارِ وَالْأَخْمَاسِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُوَاظِبٌ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٠] وَقَالَ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٦٥، ١٦٦] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ عِبَادَاتُهُمْ أَفْضَلَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحَمَزُهَا»
أَيْ أَشَقُّهَا،
وَقَوْلُهُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «إِنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ»
وَالْقِيَاسُ أَيْضًا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَانَ تَحَمُّلُهُ الْمَشَاقَّ لِأَجْلِ رِضَا مَوْلَاهُ أَكْثَرَ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّقْدِيمِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: هَبْ أَنَّ مَشَقَّتَهُمْ أَكْثَرُ فَلِمَ قُلْتُمْ يَجِبُ أن يكون ثوابهم أكثر؟ وَذَلِكَ لِأَنَّا نَرَى بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا يَتَحَمَّلُونَ فِي طَرِيقِ الْمُجَاهَدَةِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ مَا يَقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَتَحَمَّلُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَمِنْ أَمْثَالِهِ، بَلْ يُحْكَى عَنْ عُبَّادِ الْهِنْدِ وَزُهَّادِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ مِنَ الْمَتَاعِبِ فِي التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يُحْكَ مِثْلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ بِكُفْرِهِمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ كَثْرَةَ الْمَشَقَّةِ فِي الْعِبَادَةِ لَا تَقْتَضِي زِيَادَةَ الثَّوَابِ. وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِنَاءً عَلَى الدَّوَاعِي وَالْقُصُودِ، فَلَعَلَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ يَأْتِي بِهِ مُكَلَّفَانِ عَلَى السَّوَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَيَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا بِهِ ثَوَابًا عَظِيمًا وَالْآخَرُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ إلا ثَوَابًا قَلِيلًا، لِمَا أَنَّ إِخْلَاصَ أَحَدِهِمَا أَشَدُّ وَأَكْثَرُ مِنْ إِخْلَاصِ الثَّانِي، فَإِذَنْ كَثْرَةُ الْعِبَادَاتِ وَمَشَقَّتُهَا لَا تَقْتَضِي التَّفَاوُتَ فِي الْفَضْلِ ثُمَّ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَشَقُّ. أما قوله في الوجه الأول: السموات كَالْبَسَاتِينِ النَّزِهَةِ قُلْنَا مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْعِبَادَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الطَّيِّبَةِ أَشَقُّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الرَّدِيئَةِ؟ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَدْ يهيأ له أسباب التنعيم فَامْتِنَاعُهُ عَنْهَا مَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute