مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْمَحْدُودِينَ مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَئِمَّةُ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ دُونَ الْمَوَالِي وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ عَلَى عَبْدِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيَقْطَعَهُ، فَلَوْ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ لَوَجَبَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَضْمِينِ الشُّهُودِ، لِأَنَّ تَضْمِينَ الشُّهُودِ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِالشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا فَكَانَ يَصِيرُ حَاكِمَا لِنَفْسِهِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ. فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ اسْتِمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ وَلَا قَطْعَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَالِكَ رُبَّمَا لَا يَسْتَوْفِي الْحَدَّ بِكَمَالِهِ لِشَفَقَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِذَا كَانَ مُتَّهَمًا وَجَبَ أَنْ لَا يُفَوَّضَ إِلَيْهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ فَاجْلِدُوا لَيْسَ بِصَرِيحِهِ خِطَابًا مَعَ الْإِمَامِ، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْإِمَامِ لَا يَتَوَلَّاهُ حَمَلْنَا ذَلِكَ الْخِطَابَ عَلَى الْإِمَامِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَوَلَّاهُ لِأَنَّهُ عَيْنُ النِّزَاعِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي كِتَابِ «التَّهْذِيبِ» هَلْ يَجُوزُ لِلْمَوْلَى قَطْعُ يَدِ عَبْدِهِ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْبُوَيْطِيِّ لِمَا رُوِيَ/ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَطَعَ عَبْدًا لَهُ سَرَقَ وَكَمَا يَجْلِدُهُ فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالثَّانِي: لَا بَلِ الْقَطْعُ إِلَى الْإِمَامِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ جِنْسَ الْجَلْدِ وَهُوَ التَّعْزِيرُ وَلَا يَمْلِكُ جِنْسَ الْقَطْعِ، ثُمَّ قَالَ وَكُلُّ حَدٍّ يُقِيمُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ إِنَّمَا يُقِيمُهُ إِذَا ثَبَتَ بِاعْتِرَافِ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَهَلْ يَسْمَعُ الْمَوْلَى الشَّهَادَةَ، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْمَعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْإِقَامَةَ بِالِاعْتِرَافِ فَيَمْلِكُ بِالْبَيِّنَةِ كَالْإِمَامِ وَالثَّانِي: لَا يَسْمَعُ بَلْ ذَاكَ إِلَى الْحُكَّامِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالتَّعْزِيرِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: إِذَا فُقِدَ الْإِمَامُ فَلَيْسَ لِآحَادِ النَّاسِ إِقَامَةُ هَذِهِ الْحُدُودِ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُعَيِّنُوا وَاحِدًا مِنَ الصَّالِحِينَ لِيَقُومَ بِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْخَارِجِيُّ الْمُتَغَلِّبُ هَلْ لَهُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لأن إقامة الحد من جهة من لم يَلْزَمُنَا أَنْ نُزِيلَ وِلَايَتَهُ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ نُفَوِّضَ ذَلِكَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الصَّالِحِينَ.
الْبَحْثُ السَّادِسُ: فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الْحَدِّ، أَمَّا الْجَلْدُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْجَلْدُ، وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْجَلْدِ الشَّدِيدِ، وَالْجَلْدِ الْخَفِيفِ، وَالْجَلْدِ عَلَى كُلِّ الْأَعْضَاءِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُيُودِ، بَلْ مُقْتَضَى الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ الْآتِي بِالْجَلْدِ كَيْفَ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْعُهْدَةِ، لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْعُهْدَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَفِي لَفْظِ الْجَلْدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ الْأَلَمُ إِلَى اللَّحْمِ، وَلِأَنَّ الْجَلْدَ ضَرْبُ الْجِلْدِ، يُقَالُ جَلَدَهُ كَقَوْلِكَ ظَهَرَهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبَطَنَهُ وَرَأَسَهُ، إِلَّا أَنَّا لَمَّا عَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالزَّجْرُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْجَلْدِ الْخَفِيفِ لَا جَرَمَ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ الْجَلْدِ عَلَى سَبِيلِ القياس ثم هنا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْمُحْصَنُ يُجْلَدُ مَعَ ثِيَابِهِ وَلَا يُجَرَّدُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِلُ الْأَلَمُ إِلَيْهِ، وَيُنْزَعُ مِنْ ثِيَابِهِ الْحَشْوُ والفرو. روي أن أبا عبيدة بن الجراح أُتِيَ بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ قميصه، وقال ما ينبغي لجسدي هَذَا الْمُذْنِبِ أَنْ يُضْرَبَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا تَدَعُوهُ يَنْزِعُ قَمِيصَهُ فَضَرَبَهُ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَجْرِيدُهَا، بَلْ يُرْبَطُ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا حَتَّى لَا تَنْكَشِفَ، وَيَلِي ذَلِكَ مِنْهَا امْرَأَةٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: لَا يُمَدُّ وَلَا يُرْبَطُ بَلْ يُتْرَكُ حَتَّى يَتَّقِيَ بِيَدَيْهِ، وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً. قَالَ أَبُو
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute