للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ تَقُومُ بِالْجُزْءِ الْوَاحِدِ ثُمَّ تُوجِبُ حُكْمَ الْحَيِيَّةِ وَالْعَالِمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ لِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ حَيًّا وَاحِدًا عَالِمًا وَاحِدًا قَادِرًا وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الَّذِي هُوَ الْفَاعِلُ وَالْمُحَرِّكُ وَالْمُدْرِكُ شَيْءٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ. وَإِنَّمَا هُوَ مُدَبِّرٌ لِهَذَا الْبَدَنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا يَزُولُ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا قَامَ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ، فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ بِمَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ عَالِمِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ بِالْمَحَالِّ الْكَثِيرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ يَقُومَ بِكُلِّ جُزْءٍ عَالِمِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَعُودَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لِلْقَبِيحِ هُوَ ذَلِكَ الْمُبَايِنُ فَلِمَ يُضْرَبُ هَذَا الْجَسَدُ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ شَرْعَ الْحَدِّ يُفِيدُ الزَّجْرَ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا واللَّه أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

المسألة الْأُولَى: الرَّأْفَةُ الرِّقَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَقُرِئَ رَأَفَةٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرَآفَةٌ عَلَى فَعَالَةٍ.

المسألة الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ لَا تَأْخُذَكُمْ رَأْفَةٌ بِأَنْ يُعَطَّلَ الْحَدُّ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى لَا تُعَطِّلُوا حُدُودَ اللَّه وَلَا تَتْرُكُوا إِقَامَتَهَا لِلشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَأْخُذَكُمْ رَأْفَةٌ بِأَنْ يُخَفَّفَ الْجَلْدُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَيُحْتَمَلُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ الْأَمْرُ بِنَفْسِ الْجَلْدِ، وَلَمْ يُذْكَرْ صِفَتُهُ، فَمَا يَعْقُبُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَيْهِ وَكَفَى بِرَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ حَيْثُ

قَالَ: «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»

وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ فِي دِينِ اللَّه عَلَى أَنَّ الدِّينَ إِذَا أَوْجَبَ أَمْرًا لَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْفَةِ فِي خِلَافِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهُوَ من باب التهييج والنهاب الْغَضَبِ للَّه تَعَالَى وَلِدِينِهِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَتْرُكُوا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْإِيمَانِ بِخِلَافِ مَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الرَّأْفَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا إِذَا حَكَمَ الْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا تُقَامَ تِلْكَ الْحُدُودُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُنْكِرًا لِلدِّينِ فَيَخْرُجُ عَنِ الْإِيمَانِ

فِي الْحَدِيثِ «يُؤْتَى بِوَالٍ نَقَصَ مِنَ الْحَدِّ سَوْطًا، فَيُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَاكَ؟ / فَيَقُولُ رَحْمَةً لِعِبَادِكَ، فَيُقَالُ لَهُ أَنْتَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنِّي! فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَيُؤْتَى بِمَنْ زَادَ سَوْطًا فَيُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ لِيَنْتَهُوا عَنْ مَعَاصِيكَ، فَيَقُولُ أَنْتَ أَحْكَمُ بِهِ مِنِّي! فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ» .

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ أَمْرٌ وَظَاهِرُهُ لِلْوُجُوبِ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا يُسْتَحَبُّ حُضُورُ الْجَمْعِ وَالْمَقْصُودُ إِعْلَانُ إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الرَّدْعِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ التُّهْمَةِ عَمَّنْ يَجْلِدُ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ الشُّهُودَ لِأَنَّهُ يَجِبُ حُضُورُهُمْ لِيُعْلَمَ بَقَاؤُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ الطَّائِفَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ.

وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الْحُجُرَاتِ: ٩] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ اثْنَانِ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التَّوْبَةِ: ١٢٢] وَكُلُّ ثَلَاثَةٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>