للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَالَ مَا صَارَ نَبِيًّا، وَأَيْضًا هَبْ أَنَّ الآية تدل على أن الملك أفضل من الْبَشَرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَرْغُوبَةِ فَلِمَ قُلْتَ:

إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ فِي بَابِ الثَّوَابِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ فِي بَابِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَفِي بَابِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَفِي بَابِ الصَّفَاءِ وَالنَّقَاءِ عَنِ الْكُدُورَاتِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ التَّرْكِيبَاتِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ الْأَنْوَارِ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ فَلَعَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ إِلَّا أَنَّهُ رَغِبَ فِي أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا فَكَانَ التَّغْرِيرُ حَاصِلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلَّا أَنْ تَنْقَلِبَا مَلَكَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُكُمْ وَيُحْتَمَلُ/ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْخَالِدِينَ دُونَكُمَا، هَذَا كَمَا يَقُولُ أَحَدُنَا لِغَيْرِهِ مَا نَهَيْتَ أَنْتَ عَنْ كَذَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ فُلَانًا وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ هُوَ فُلَانٌ دُونَكَ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا أَنْ يَنْقَلِبَ فَيَصِيرَ فُلَانًا، وَلَمَّا كَانَ غَرَضُ إِبْلِيسَ إِيقَاعَ الشُّبْهَةِ بِهِمَا فَمِنْ أَوْكَدِ الشُّبْهَةِ إِيهَامُ أَنَّهُمَا لَمْ يُنْهَيَا وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ غَيْرُهُمَا، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ فَلِمَ قُلْتُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَلَكِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَفْضُولِ كَوْنُهُ أَفْضَلَ مِنَ الْأَفْضَلِ. وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: ٥٠] . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ فِي كَثْرَةِ الْعُلُومِ وَشِدَّةِ الْقُدْرَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ طَالَبُوهُ بِالْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ نَحْوَ صُعُودِ السَّمَاءِ وَنَقْلِ الْجِبَالِ وَإِحْضَارِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا بِالْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ وَالْقُدْرَةِ الشَّدِيدَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَقَوْلَهُ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَمَا لَا أَدَّعِي الْقُدْرَةَ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَالْعِلْمَ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ فَكَذَلِكَ لَا أَدَّعِي قُدْرَةً مِثْلَ قُدْرَةِ الْمَلَكِ وَلَا عِلْمًا مِثْلَ عُلُومِهِمْ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الصُّورَةِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْغَرَضَ وَإِنَّمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ وَهَذَا يَكْفِي فِي صِدْقِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ وَلَا تَكُونُ صِفَاتُهُ مُسَاوِيَةً لِصِفَاتِهِمْ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُقُوعِ التَّفَاوُتِ فِي كُلِّ الصِّفَاتِ فَإِنَّ عَدَمَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْكُلِّ غَيْرٌ، وَحُصُولُ الِاخْتِلَافِ فِي الْكُلِّ غَيْرٌ. وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يُوسُفَ: ٣١] . فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وُقُوعَ التَّشْبِيهِ فِي الصُّورَةِ وَالْجَمَالِ.

قُلْنَا: الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ وَاقِعًا فِي السِّيرَةِ لَا فِي الصُّورَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فَشَبَّهَهُ بِالْمَلَكِ الْكَرِيمِ وَالْمَلَكُ إِنَّمَا يَكُونُ كَرِيمًا بِسِيرَتِهِ الْمُرْضِيَةِ لَا بِمُجَرَّدِ صُورَتِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُهُ بِالْمَلَكِ فِي نَفْيِ دَوَاعِي الْبَشَرِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الْمُشْتَهَى وَإِثْبَاتِ ضِدِّ ذَلِكَ وَهِيَ حَالَةُ الْمَلَكِ وَهِيَ غَضُّ البصر وقمع النفس عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَلَائِكَةِ بِدَرَجَةٍ فَائِقَةٍ عَلَى دَرَجَاتِ الْبَشَرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَ المرأة فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: ٣٢] كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ مُرَادَ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِنَّ: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ تَعْظِيمُ حَالِ يُوسُفَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ لَا فِي السِّيرَةِ، لِأَنَّ ظُهُورَ عُذْرِهَا فِي شِدَّةِ عِشْقِهَا، إِنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ فَرْطِ يُوسُفَ فِي الْجَمَالِ لَا بِسَبَبِ فَرْطِ زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ شِدَّةَ عِشْقِهَا لَهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَلَكِ في الإعراض عن المشتهيات، فلم قلت يَجِبْ أَنْ يَكُونَ يُوسُفُ عَلَيْهِ/ السَّلَامُ أَقَلَّ ثواباً من الملائكة؟ وذلك لأنه