للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا اسْتِثْنَاءٌ مَذْكُورٌ عَقِيبَ جُمَلٍ فَوَجَبَ عَوْدُهُ إِلَيْهَا بِأَسْرِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا:

أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الْجَمِيعِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ الْفَرْقُ أَنَّ قوله: إن شاء الله [يوسف: ٩٩] يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ فِيهِ شَيْءٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَجُوزُ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّه فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِلَّا طَلَاقًا كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِاسْتِحَالَةِ دُخُولِهِ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُجُوعِ قَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ صِحَّةُ رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ بِحَرْفِهِ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، قُلْنَا هَذَا فَرْقٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْجَمْعِ، لِأَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّه جَازَ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا جَرَمَ جَازَ رُجُوعُهُ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ وَإِلَّا جَازَ دُخُولُهُ لِرَفْعِ بَعْضِ الْكَلَامِ فَوَجَبَ جَوَازُ رُجُوعِهِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ عَلَى هَذَا الوجه، حَتَّى يَقْتَضِيَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ بَعْضُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَقَوْلُهُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ صَارَ الْجَمْعُ كَأَنَّهُ ذُكِرَ مَعًا لَا تَقَدُّمَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الاستثناء لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى الْبَاقِي إِذْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ تَقَدُّمٌ فِي الْمَعْنَى الْبَتَّةَ فَوَجَبَ رُجُوعُهُ إِلَى الْكُلِّ، وَنَظِيرُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٦] فَإِنَّ فَاءَ التَّعْقِيبِ مَا دَخَلَتْ عَلَى غَسْلِ الوجه بَلْ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ. فَكَذَا هَاهُنَا كَلِمَةُ إِلَّا مَا دَخَلَتْ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ بَلْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَجْمُوعِ، فَإِنْ قِيلَ الْوَاوُ قَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَهِيَ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ لِلْجَمْعِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَنَظْمُهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَيَصِيرُ الْكُلُّ كَالْمَذْكُورِ مَعًا مِثْلَ آيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ الْكُلَّ أَمْرٌ/ وَاحِدٌ كَأَنَّهُ قَالَ فَاغْسِلُوا هَذِهِ الْأَعْضَاءَ فَإِنَّ الْكُلَّ قَدْ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ. وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا أَمْرٌ وَآخِرَهَا خَبَرٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظِمَهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَكَانَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ فَيَخْتَصُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ، قُلْنَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ بِمَجْمُوعِهِنَّ جَزَاءَ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَمَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ وَرُدُّوا شَهَادَتَهِمْ وَفَسِّقُوهُمْ، أَيْ فَاجْمَعُوا لَهُمُ الْجَلْدَ وَالرَّدَّ وَالْفِسْقَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا عَنِ الْقَذْفِ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّه يَغْفِرُ لَهُمْ فَيَنْقَلِبُونَ غَيْرَ مَجْلُودِينَ وَلَا مَرْدُودِينَ وَلَا مُفَسَّقِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي عَدَمِ قَبُولِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ كَوْنُهُ فَاسِقًا، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا وَكَوْنُهُ فَاسِقًا يُنَاسِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ إِلَّا كَوْنَهُ فَاسِقًا، وَدَلَّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى زَوَالِ الْفِسْقِ فَقَدْ زَالَتِ الْعِلَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ الْحُكْمُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [البقرة: ١٦٠] وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ حَاصِلَةٌ لِهَؤُلَاءِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاءِ: ٤٣] وَصَارَ التَّيَمُّمُ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ، كَمَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَهَذَا الوجه ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، فَكَذَا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ طَرْدًا لِلْبَابِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِعُمُومِ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ قائم

<<  <  ج: ص:  >  >>