للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ شَهَادَةً فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ يَمِينٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَأْتِي بِثَمَانِ شَهَادَاتٍ، لِأَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى وَالْفَاسِقِ وَلَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، فَإِنْ قِيلَ الْفَاسِقُ وَالْفَاسِقَةُ قَدْ يَتُوبَانِ قُلْنَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ قَدْ يُعْتَقُ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَكَّدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ذلك بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عُتِقَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَالِ وَالْفَاسِقَ إِذَا تَابَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ أَلْزَمَ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اللِّعَانُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالذِّمِّيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. ثم قال بَعْدَ ذَلِكَ: وَتَخْتَلِفُ الْحُدُودُ بِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ لَمْ يُلَاعِنْ تَنَصَّفَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ لِرِقِّهِ، وَإِنْ لَاعَنَ وَلَمْ تُلَاعِنِ اخْتَلَفَ حَدُّهَا بِإِحْصَانِهَا وَعَدَمِ إِحْصَانِهَا وَحُرِّيَّتِهَا وَرِقِّهَا.

الطَّرَفُ الثَّالِثُ: الْأَحْكَامُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى اللِّعَانِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه يَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ دَرْءُ الْحَدِّ وَنَفْيُ الْوَلَدِ وَالْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ وَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَكُلُّهَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ/ وَلَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى لِعَانِهَا وَلَا إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِهِ كَانَ تَنْفِيذًا مِنْهُ لَا إِيقَاعًا لِلْفُرْقَةِ. فَلْنَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ:

المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ:

لَا أَرَى مُلَاعَنَةَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ تَقْتَضِي شَيْئًا يُوجِبُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِفَرَاغِهِمَا مِنَ اللِّعَانِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَثَالِثُهَا: قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَزُفَرُ رَحِمَهُمُ اللَّه إِذَا فَرَغَا مِنَ اللِّعَانِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّقِ الْحَاكِمُ وَرَابِعُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه إِذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهَادَةَ وَالِالْتِعَانَ فَقَدْ زَالَ فِرَاشُ امْرَأَتِهِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا الْتَعَنَتْ أَوْ لَمْ تَلْتَعِنْ، حُجَّةُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ عَنِ الْفُرْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ الْفُرْقَةَ كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا إِشْعَارَ لَهَا بِالْفُرْقَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمًا فَإِذَا كَانَ كَاذِبًا وَالْمَرْأَةُ صَادِقَةً يَثْبُتُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَثَانِيهَا: لَوْ تَلَاعَنَا فِيمَا بَيْنَهُمَا لَمْ يُوجِبِ الْفُرْقَةَ فَكَذَا لَوْ تَلَاعَنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ الشُّهُودِ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِحْضَارِ الشُّهُودِ هُنَاكَ إِلَّا إِسْقَاطُ الْحَدِّ، فَكَذَا اللِّعَانُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ إِلَّا إِسْقَاطُ الحدو رابعها: إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فِي قَذْفِهِ إِيَّاهَا ثُمَّ حُدَّ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فُرْقَةً فَكَذَا إذا لا عن لِأَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ دَرْءِ الْحَدِّ، قَالَ وَأَمَّا تَفْرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ فَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَنَّ الْحَاكِمَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَدَلِيلُهُ مَا رَوَى سَهْلُ بن سعد في قصة العجلاني مضت السنة فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَالثَّانِي: أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: رُوِيَ فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ أَنَّهُمَا لَمَّا فَرَغَا «قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّه إِنْ أَمْسَكْتُهَا، هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا» فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ لَبَطَلَ قَوْلُهُ: «كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا» لِأَنَّ إِمْسَاكَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنْفِيذُ الطَّلَاقِ إِنَّمَا يُمْكِنُ لَوْ لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَثَالِثُهَا: مَا قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِاللِّعَانِ اسْتَحَالَ التَّفْرِيقُ بَعْدَهَا وثانيها: قال

<<  <  ج: ص:  >  >>