للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعَ زَوَائِدَ كَثِيرَةٍ تُقَوِّي كَلَامَهُ ثُمَّ نَنْظُرُ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْصَافِ فَقَالَ: اسْمُ النُّورِ إِنَّمَا وُضِعَ لِلْكَيْفِيَّةِ الْفَائِضَةِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ، فَيُقَالُ اسْتَنَارَتِ الْأَرْضُ وَوَقَعَ نُورُ الشَّمْسِ عَلَى الثَّوْبِ وَنُورُ السِّرَاجِ عَلَى الْحَائِطِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ إِنَّمَا اخْتُصَّتْ بِالْفَضِيلَةِ وَالشَّرَفِ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّاتِ تَصِيرُ بِسَبَبِهَا ظَاهِرَةً مُنْجَلِيَةً، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَمَا يَتَوَقَّفُ إِدْرَاكُ هَذِهِ الْمَرْئِيَّاتِ عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَنِيرَةً فَكَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ إِذِ الْمَرْئِيَّاتُ بَعْدَ اسْتِنَارَتِهَا لَا تَكُونُ ظَاهِرَةً فِي حَقِّ الْعُمْيَانِ فَقَدْ سَاوَى الرُّوحُ الْبَاصِرَةُ النُّورَ الظَّاهِرَةَ فِي كَوْنِهِ رُكْنًا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلظُّهُورِ، ثُمَّ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الرُّوحَ الْبَاصِرَةَ هِيَ الْمُدْرِكَةُ وَبِهَا الْإِدْرَاكُ، وَأَمَّا النُّورُ الْخَارِجُ فَلَيْسَ بِمُدْرِكٍ ولا به الإدراك بل عند الْإِدْرَاكُ، فَكَانَ وَصْفُ الْإِظْهَارِ بِالنُّورِ الْبَاصِرِ أَحَقَّ مِنْهُ بِالنُّورِ الْمُبْصَرِ فَلَا جَرَمَ أَطْلَقُوا/ اسْمَ النُّورِ عَلَى نُورِ الْعَيْنِ الْمُبْصِرَةِ فَقَالُوا فِي الْخُفَّاشِ إِنَّ نُورَ عَيْنِهِ ضَعِيفٌ، وَفِي الْأَعْمَشِ إِنَّهُ ضَعُفَ نُورُ بَصَرِهِ. وَفِي الْأَعْمَى إِنَّهُ فَقَدَ نُورَ الْبَصَرِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ لِلْإِنْسَانِ بَصَرًا وَبَصِيرَةً فَالْبَصَرُ هُوَ الْعَيْنُ الظَّاهِرَةُ الْمُدْرِكَةُ لِلْأَضْوَاءِ وَالْأَلْوَانِ، وَالْبَصِيرَةُ هِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ يَقْتَضِي ظُهُورَ الْمُدْرَكِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِدْرَاكَيْنِ نُورٌ إِلَّا أَنَّهُمْ عَدَّدُوا لِنُورِ الْعَيْنِ عُيُوبًا لَمْ يَحْصُلْ شيء منها في نور العقلي، وَالْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ذَكَرَ مِنْهَا سَبْعَةً، وَنَحْنُ جَعَلْنَاهَا عِشْرِينَ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَلَا تُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا وَلَا تُدْرِكُ آلَتَهَا، أَمَّا أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَلَا تُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا فَلِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ وَإِدْرَاكَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ لَيْسَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُبْصَرَةِ بِالْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ، وَأَمَّا آلَتُهَا فَهِيَ الْعَيْنُ، وَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ بِالْعَيْنِ لَا تُدْرِكُ الْعَيْنَ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ فَإِنَّهَا تُدْرِكُ نَفْسَهَا وَتُدْرِكُ إِدْرَاكَهَا وَتُدْرِكُ آلَتَهَا فِي الْإِدْرَاكِ وَهِيَ الْقَلْبُ وَالدِّمَاغُ، فَثَبَتَ أَنَّ نُورَ الْعَقْلِ أَكْمَلُ مِنْ نُورِ الْبَصَرِ الثَّانِي: أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَالْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ تُدْرِكُهَا، وَمُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَهُوَ الْقَلْبُ أَشْرَفُ مِنْ مُدْرِكِ الْجُزْئِيَّاتِ، أَمَّا أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ فَلِأَنَّ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ لَوْ أَدْرَكَتْ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ فَهِيَ مَا أَدْرَكَتِ الْكُلَّ لِأَنَّ الْكُلَّ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ والمستقبل، وأما أن القوة العاقلة تدرك الكيات فَلِأَنَّا نَعْرِفُ أَنَّ الْأَشْخَاصَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ وَمُتَمَايِزَةٌ بِخُصُوصِيَّاتِهَا، وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَالْإِنْسَانِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ إِنْسَانِيَّةٌ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْمُشَخَّصَاتِ فَقَدْ عَقَلْنَا الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، وَأَمَّا أَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيَّاتِ أَشْرَفُ فَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيَّاتِ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ، وَإِدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ وَاجِبُ التَّغَيُّرِ، وَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الْكُلِّيِّ يَتَضَمَّنُ إِدْرَاكَ الْجُزْئِيَّاتِ الْوَاقِعَةِ تَحْتَهُ، لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْمَاهِيَّةِ ثَبَتَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهَا وَلَا يَنْعَكِسُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ الثَّالِثُ: الْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ غَيْرُ مُنْتِجٍ وَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ مُنْتِجٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ أَشْرَفَ، أَمَّا كَوْنُ الْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ غَيْرَ مُنْتِجٍ فَلِأَنَّ مَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْإِحْسَاسُ سَبَبًا لِحُصُولِ إِحْسَاسٍ آخَرَ لَهُ، بَلْ لَوِ اسْتَعْمَلَ لَهُ الْحِسَّ مَرَّةً أُخْرَى لَأَحَسَّ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِنْتَاجَ الْإِحْسَاسِ لِإِحْسَاسٍ آخَرَ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ مُنْتِجٌ فَلِأَنَّا إِذَا عَقَلْنَا أُمُورًا ثُمَّ رَكَّبْنَاهَا فِي عُقُولِنَا تَوَسَّلْنَا بِتَرْكِيبِهَا إِلَى اكْتِسَابِ عُلُومٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا كُلُّ تَعَقُّلٍ حَاصِلٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ تَعَقُّلٍ آخَرَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ أَشْرَفُ الرَّابِعُ: الْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ لَا يَتَّسِعُ لِلْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ وَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ، يَتَّسِعُ لَهَا

فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ أَشْرَفَ. أَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْحِسِّيَّ لَا يَتَّسِعُ لَهَا فَلِأَنَّ الْبَصَرَ إِذَا تَوَالَى عَلَيْهِ أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ عَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهَا، فَأَدْرَكَ لَوْنًا كَأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنَ اخْتِلَاطِ تِلْكَ الْأَلْوَانِ [وَ] السَّمْعُ إِذَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ كَلِمَاتٌ كَثِيرَةٌ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ وَلَمْ يَحْصُلِ التَّمْيِيزُ، وَأَمَّا أَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ مُتَّسِعٌ لَهَا فَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ تَحْصِيلُهُ لِلْعُلُومِ أَكْثَرَ كَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى كَسْبِ الْجَدِيدِ أَسْهَلَ، وَبِالْعَكْسِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِأَنَّ الإدراك

<<  <  ج: ص:  >  >>