وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ أَنَّ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ قَدْ بَلَغَ فِي الصَّفَاءِ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَالِامْتِيَازِ عَنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ مَبْلَغَ السِّرَاجِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أُبَيٌّ: مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ، وَهَكَذَا كَانَ يَقْرَأُ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَخَامِسُهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَهُوَ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ أَنْوَارٌ، وَمَرَاتِبُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا: الْقُوَّةُ الْحَسَّاسَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَتَلَقَّى مَا تُورِدُهُ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ وَكَأَنَّهَا أَصْلُ الرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ، وَأَوَّلُهُ إِذْ بِهِ يَصِيرُ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا وَهُوَ مَوْجُودٌ لِلصَّبِيِّ الرَّضِيعِ وَثَانِيهَا: الْقُوَّةُ الْخَيَالِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تَسْتَثْبِتُ مَا أَوْرَدَهُ الْحَوَاسُّ وَتَحْفَظُهُ مَخْزُونًا عِنْدَهَا لِتَعْرِضَهُ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي فَوْقَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَثَالِثُهَا: الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُدْرِكَةُ لِلْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ وَرَابِعُهَا: الْقُوَّةُ الْفِكْرِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفا فستنتج مِنْ تَأْلِيفِهَا عِلْمًا بِمَجْهُولٍ وَخَامِسُهَا: الْقُوَّةُ الْقُدْسِيَّةُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ، وَتَتَجَلَّى فِيهَا لَوَائِحُ الْغَيْبِ وَأَسْرَارُ الْمَلَكُوتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشُّورَى: ٥٢] وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقُوَى فَهِيَ بِجُمْلَتِهَا أَنْوَارٌ، إِذْ بِهَا تَظْهَرُ أَصْنَافُ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّ هَذِهِ المراتب الخمسة يمكن تشبيهها بالأمور الحسنة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى وَهِيَ: الْمِشْكَاةُ وَالزُّجَاجَةُ وَالْمِصْبَاحُ وَالشَّجَرَةُ وَالزَّيْتُ. أَمَّا الرُّوحُ الْحَسَّاسُ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى خَاصِّيَّتِهِ وَجَدْتَ أَنْوَارَهُ خَارِجَةً مِنْ عِدَّةِ أَثْقُبٍ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْمِنْخَرَيْنِ وَأَوْفَقُ مِثَالٍ لَهُ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَامِ الْمِشْكَاةُ وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الرُّوحُ الْخَيَالِيُّ فَنَجِدُ لَهُ خَوَاصَّ ثَلَاثَةً: الْأُولَى: أَنَّهُ مِنْ طِينَةِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ الْكَثِيفِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَخَيَّلَ ذُو قَدْرٍ وَشَكْلٍ وَحَيِّزٍ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ أَنْ تُحْجَبَ عَنِ الْأَنْوَارِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي هِيَ التَّعَقُّلَاتُ الْكُلِّيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا الْخَيَالَ الْكَثِيفَ إِذَا صَفَا وَرَقَّ وَهُذِّبَ صَارَ مُوَازِنًا لِلْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ وَمُؤَدِّيًا لِأَنْوَارِهَا وَغَيْرَ حَائِلٍ عَنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُعَبِّرَ يَسْتَدِلُّ بِالصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ عَلَى الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، كَمَا يَسْتَدِلُّ بِالشَّمْسِ عَلَى الْمَلِكِ، وَبِالْقَمَرِ عَلَى الْوَزِيرِ، وَبِمَنْ يَخْتِمُ فُرُوجَ النَّاسِ وَأَفْوَاهَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مُؤَذِّنٌ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الصُّبْحِ وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ الْخَيَالَ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ جِدًّا لِيَضْبِطَ بِهَا الْمَعَارِفَ الْعَقْلِيَّةَ وَلَا تَضْطَرِبَ، فَنِعْمَ الْمِثَالَاتُ الْخَيَالِيَّةُ الْجَالِبَةُ لِلْمَعَارِفِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَنْتَ لَا تَجِدُ شَيْئًا فِي الْأَجْسَامِ يُشْبِهُ الْخَيَالَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا الزُّجَاجَةُ، فَإِنَّهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ جَوْهَرٍ كَثِيفٍ وَلَكِنْ صَفَا وَرَقَّ حَتَّى صَارَ لَا يَحْجُبُ نُورَ الْمِصْبَاحِ بَلْ يُؤَدِّيهِ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ عَلَى الِانْطِفَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَهِيَ الْقَوِيَّةُ عَلَى إِدْرَاكِ الْمَاهِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمَعَارِفِ/ الْإِلَهِيَّةِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ وَجْهُ تَمْثِيلِهِ بِالْمِصْبَاحِ، وَقَدْ عَرَفْتَ هَذَا حَيْثُ بَيَّنَّا كَوْنَ الْأَنْبِيَاءِ سُرُجًا مُنِيرَةً وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ الْقُوَّةُ الْفِكْرِيَّةُ فَمِنْ خَوَاصِّهَا أَنَّهَا تَأْخُذُ مَاهِيَّةً واحدة، ثم تقسيمها إِلَى قِسْمَيْنِ كَقَوْلِنَا الْمَوْجُودُ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، ثُمَّ تَجْعَلُ كُلَّ قِسْمٍ مَرَّةً أُخْرَى قِسْمَيْنِ وَهَكَذَا إِلَى أَنْ تَكْثُرَ الشُّعَبُ بِالتَّقْسِيمَاتِ العقلية، ثم تقضي بالآخرة إلى نتائج وَهِيَ ثَمَرَاتُهَا، ثُمَّ تَعُودُ فَتَجْعَلُ تِلْكَ الثَّمَرَاتِ بُذُورًا لِأَمْثَالِهَا حَتَّى تَتَأَدَّى إِلَى ثَمَرَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مِثَالُهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الشَّجَرَةَ، وَإِذَا كَانَتْ ثِمَارُهَا مَادَّةً لِتَزَايُدِ أَنْوَارِ الْمَعَارِفِ وَنَبَاتِهَا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يُمَثَّلَ بِشَجَرَةِ السَّفَرْجَلِ وَالتُّفَّاحِ، بَلْ بِشَجَرَةِ الزَّيْتُونِ خَاصَّةً، لِأَنَّ لُبَّ ثَمَرَتِهَا هُوَ الزَّيْتُ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْمَصَابِيحِ، وَلَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَدْهَانِ خَاصِّيَّةُ زِيَادَةِ الْإِشْرَاقِ وَقِلَّةِ الدُّخَانِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَاشِيَةُ الَّتِي يَكْثُرُ دَرُّهَا وَنَسْلُهَا وَالشَّجَرَةُ الَّتِي تَكْثُرُ ثَمَرَتُهَا تُسَمَّى مُبَارَكَةً فَالَّذِي لَا يَتَنَاهَى إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى شَجَرَةً مُبَارَكَةً، وَإِذَا كَانَتْ شُعَبُ الْأَفْكَارِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ مُجَرَّدَةً عَنْ لَوَاحِقِ الْأَجْسَامِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تكون
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute