مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
[الْبَقَرَةِ: ٣٢] فعند ذلك قال الله تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَالِمًا بِمَا لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ وَأَمَّا أَنَّ الْأَعْلَمَ أَفْضَلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: ٩] وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣] وَالْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْعَالَمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِلْمِ فَكُلُّ مَا كَانَ عَلَمًا عَلَى اللَّهِ وَدَالًّا عَلَيْهِ فَهُوَ عَالَمٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ مُحْدَثٍ فَهُوَ عَالَمٌ فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ منعاه أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَاهُمْ عَلَى كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ/ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَشْكُلُ هَذَا بقوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٤٧] فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَا هاهنا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٢] وَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُهَا أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا هاهنا قُلْنَا، الْإِشْكَالُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ خِطَابٌ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا أَسْلَافَ الْيَهُودِ وَحِينَ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَكُونُ مِنَ الْعَالَمِينَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنِ اصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اصْطَفَى اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وهاهنا فَلَا دَلِيلَ يُوجِبُ تَرْكَ الظَّاهِرِ فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعُمُومِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٧] وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِينَ فَكَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحْمَةً لَهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ عِبَادَةَ الْبَشَرِ أَشَقُّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا أَشَقُّ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ الْآدَمِيَّ لَهُ شَهْوَةٌ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَلَكُ لَيْسَتْ لَهُ هَذِهِ الشَّهْوَةُ وَالْفِعْلُ مَعَ الْمُعَارِضِ الْقَوِيِّ أَشَدُّ مِنْهُ بِدُونِ الْمُعَارِضِ فَإِنْ قِيلَ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ شَهْوَةٌ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ شَهْوَةُ الرِّيَاسَةِ قُلْنَا هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْبَشَرَ لَهُمْ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِثْلُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَلَكُ لَيْسَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ إِلَّا شَهْوَةً وَاحِدَةً وَهِيَ شَهْوَةُ الرِّيَاسَةِ وَالْمُبْتَلَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الشَّهَوَاتِ تَكُونُ الطَّاعَةُ عَلَيْهِ أَشَقَّ مِنَ الْمُبْتَلَى بِشَهْوَةٍ وَاحِدَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَعْمَلُونَ إِلَّا بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا [الْبَقَرَةِ: ٣٢] وَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٧] وَالْبَشَرُ لَهُمْ قُوَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ وَالْقِيَاسِ قَالَ تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الْحَشْرِ: ٢] وَقَالَ مُعَاذٌ اجْتَهَدْتُ بِرَأْيِي فَصَوَّبَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالِاسْتِنْبَاطِ أَشَقُّ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ الثَّالِثُ: أَنَّ الشُّبُهَاتِ لِلْبَشَرِ أَكْثَرُ مِمَّا لِلْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الشُّبُهَاتِ الْقَوِيَّةِ كَوْنَ الْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ السَّيَّارَةِ أَسْبَابًا لِحَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ فَالْبَشَرُ احْتَاجُوا إِلَى دَفْعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَحْتَاجُونَ لِأَنَّهُمْ سَاكِنُونَ فِي عَالَمِ السموات فَيُشَاهِدُونَ كَيْفِيَّةَ افْتِقَارِهَا إِلَى الْمُدَبِّرِ الصَّانِعِ، الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى وَسْوَسَةِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى الْبَشَرِ فِي الْوَسْوَسَةِ وَذَلِكَ تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَاعَتَهُمْ أَشَقُّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ ثَوَابًا بِالنَّصِّ
فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا»
أَيْ أَشَقُّهَا وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّا نَعْلَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute