للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْنَا ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهَا فِي المسألة الْأُولَى. قَوْلُهُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ قَوْلَهُ: فَلْيَحْذَرِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَذَرِ عَنِ الْعِقَابِ؟ قُلْنَا لَا نَدَّعِي وُجُوبَ الْحَذَرِ، وَلَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنْ جَوَازِ الْحَذَرِ، وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعِقَابِ. قَوْلُهُ لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُخَالِفٍ لِلْأَمْرِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ نُزُولَ الْعِقَابِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِهِ، فَيَلْزَمُ عُمُومُهُ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ. قَوْلُهُ هَبْ أَنَّ أَمْرَ اللَّه أَوْ أَمْرَ رَسُولِهِ لِلْوُجُوبِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ واللَّه أَعْلَمُ.

المسألة الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَفْظُ الْأَمْرِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَمْرِ الْقَوْلِيِّ وَبَيْنَ الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ، كَمَا يُقَالُ أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَنْ أَمْرِهِ يَتَنَاوَلُ قَوْلَ الرَّسُولِ وَفِعْلَهُ وَطَرِيقَتَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْنَا، وَهَذِهِ المسألة مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ عَنْ أَمْرِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ رَاجِعَةً إِلَى اللَّه تَعَالَى فَالْبَحْثُ سَاقِطٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، واللَّه أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَالْمُرَادُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ تُوجِبُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُرَادُ بالفتنة العقوبة في الدنيا، والعذاب الْأَلِيمِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا رَدَّدَ اللَّه تَعَالَى حَالَ ذَلِكَ الْمُخَالِفِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ قَدْ يَمُوتُ مِنْ دُونِ عِقَابِ الدُّنْيَا وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَوْرَدَهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّرْدِيدِ، ثم قال الْحَسَنُ: الْفِتْنَةُ هِيَ ظُهُورُ نِفَاقِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْقَتْلُ. وَقِيلَ: الزَّلَازِلُ وَالْأَهْوَالُ، وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَذَاكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا/ وَعَلَى مَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَاقْتِدَارِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِيمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ بِثَوَابٍ أَوْ بِعِقَابٍ، وَعِلْمِهِ بِمَا يُخْفِيهِ وَيُعْلِنُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَالزَّجْرِ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أَدْخَلَ (قَدْ) لِتَوْكِيدِ عِلْمِهِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي الدِّينِ وَالنِّفَاقِ. وَيَرْجِعُ تَوْكِيدُ الْعِلْمِ إِلَى تَوْكِيدِ الْوَعِيدِ: وَذَلِكَ لِأَنَّ قَدْ إِذَا أُدْخِلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ كَانَتْ بِمَعْنَى رُبَّمَا، فَوَافَقَتْ رُبَّمَا فِي خُرُوجِهَا إِلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ. كَمَا في قوله الشَّاعِرِ:

فَإِنْ يُمْسِ مَهْجُورَ الْفِنَاءِ فَرُبَّمَا ... أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الْوُفُودِ وُفُودٌ

وَالْخِطَابُ وَالْغَيْبَةُ فِي قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا لِلْمُنَافِقِينَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ عَامًّا وَيَرْجِعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى حَيْثُ لَا حُكْمَ إِلَّا لَهُ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ واللَّه أَعْلَمُ.

وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>