للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صَدَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ جُزْءٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِنَا كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَتَى صَدَقَ الْمُرَكَّبُ صَدَقَ الْمُفْرَدُ لَا مَحَالَةَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ كَانَ صَارَ، أَيْ وصار من الكافرين، وهاهنا أَبْحَاثٌ، الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ قَبْلَهُ جَمْعٌ مِنَ الْكَافِرِينَ حَتَّى يَصْدُقَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَافِرِينَ، قَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَعْضُ الْكَافِرِينَ يَقْتَضِي وُجُودَ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الْكَافِرِينَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ بَعْضًا لَهُمْ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا

رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَقَالُوا لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ فَبَعَثَ/ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَبَوْا»

وَقَالَ آخَرُونَ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:

مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ صَارَ مِنَ الَّذِينَ وَافَقُوهُ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَذَكَرَ فِي مِثَالِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:

الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: ٦٧] فَأَضَافَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِسَبَبِ الْمُوَافَقَةِ فِي الدين فكذا هاهنا لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ ظَاهِرًا مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ صَحَّ قَوْلُهُ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا إِضَافَةٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ إِلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَصِحَّةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لَا تَقْتَضِي وُجُودَ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْحَيَوَانِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَوْجُودَةِ خَارِجَ الذِّهْنِ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ وَوَاحِدٌ مِنْ آحَادِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَعِنْدَنَا، لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ عَنِ الْإِيمَانِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْكُفْرِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوَارِجِ فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ كُفْرٌ، وَهُمْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَّرَ إِبْلِيسَ بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ كُفْرٌ، الْجَوَابُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَافِرٌ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَهَذَا السُّؤَالُ زَائِلٌ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا، فَنَقُولُ إِنَّهُ إِنَّمَا كَفَرَ لِاسْتِكْبَارِهِ وَاعْتِقَادِهِ كَوْنَهُ مُحِقًّا فِي ذَلِكَ التَّمَرُّدِ وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ مَأْمُورُونَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:

أَنَّ لَفْظَ الْمَلَائِكَةِ صِيغَةُ الْجَمْعِ وَهِيَ تُفِيدُ الْعُمُومَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَقْرُونَةً بِأَكْمَلِ وُجُوهِ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الْحِجْرِ: ٣٠] . الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ مِنْهُمْ وَاسْتِثْنَاءُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدَا ذَلِكَ الشَّخْصَ كَانَ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ الْمَأْمُورُونَ بِهَذَا السُّجُودِ هُمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ وَاسْتَعْظَمُوا أَنْ يَكُونَ أَكَابِرُ الْمَلَائِكَةِ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْجَوَاهِرِ الرُّوحَانِيَّةِ وَقَالُوا يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْوَاحُ السَّمَاوِيَّةُ مُنْقَادَةً لِلنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ إِنَّمَا الْمُرَادُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةُ الْبَشَرِيَّةُ الْمُطِيعَةُ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَالْكَلَامُ فِي هذه المسألة مذكور في العقليات.

تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث، وأوله قوله تعالى:

وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ