المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بتخفيف الشين هاهنا وَفِي سُورَةِ ق، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الِاخْتِيَارُ التَّخْفِيفُ كَمَا يُخَفَّفُ تَسَاءَلُونَ وَمَنْ شَدَّدَ فَمَعْنَاهُ تَتَشَقَّقُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْغَمامِ أَيْ عَنِ الْغَمَامِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ لَا تَتَشَقَّقُ بِالْغَمَامِ بَلْ عَنِ الْغَمَامِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ تَعَالَى الْغَمَامَ بِحَيْثُ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِاعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ:
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [الْمُزَّمِّلُ: ١٨] .
المسألة الرابعة: لا بد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة، فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها، ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلا بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلِأَنَّ السَّمَاءَ مَقَرُّ الْمَلَائِكَةِ فَإِذَا تَشَقَّقَ وَجَبَ أَنْ يَنْزِلُوا إِلَى الْأَرْضِ، ثم قال مُقَاتِلٌ: تَشَقَّقُ سَمَاءُ الدُّنْيَا فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ سُكَّانِ الدُّنْيَا، كَذَلِكَ تَتَشَقَّقُ سَمَاءً سَمَاءً، ثُمَّ يَنْزِلُ الْكَرُوبِيُّونَ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَنْزِلُ الرَّبُّ تَعَالَى. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ تَتَشَقَّقُ كُلُّ سَمَاءٍ وَيَنْزِلُ سُكَّانُهَا فَيُحِيطُونَ بِالْعَالَمِ وَيَصِيرُونَ سَبْعَ صُفُوفٍ حَوْلَ الْعَالَمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ نُزُولَ الرَّبِّ بِالذَّاتِ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِأَنَّ النُّزُولَ حَرَكَةٌ وَالْمَوْصُوفُ بِالْحَرَكَةِ مُحْدَثٌ وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا. وَأَمَّا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ فَعَلَيْهِ سُؤَالٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْأَرْضَ بِالْقِيَاسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، فَكَيْفَ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ فَمَلَائِكَةُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِأَسْرِهَا كَيْفَ تَتَّسِعُ لَهُمُ الْأَرْضُ جَمِيعًا؟ فَلَعَلَّ اللَّه تَعَالَى يَزِيدُ فِي طُولِ الْأَرْضِ وَعَرْضِهَا وَيُبَلِّغُهَا مَبْلَغًا يَتَّسِعُ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ يَكُونُونَ فِي الْغَمَامِ مِنْهُ، واللَّه تَعَالَى يُسَكِّنُ الْغَمَامَ فَوْقَ أَهْلِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْغَمَامُ مَقَرَّ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ الْحَسَنُ:
وَالْغَمَامُ سُتْرَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ بِنَسْخِ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ وَالْمُحَاسَبَةُ تَكُونُ فِي الْأَرْضِ.
المسألة السَّادِسَةُ: أَمَّا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ فَظَاهِرٌ، وَمَعْنَى تَنْزِيلًا تَوْكِيدٌ لِلنُّزُولِ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِسْرَاعِهِمْ فِيهِ.
المسألة السَّابِعَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْغَمَامِ لَيْسَ لِلْعُمُومِ فَهُوَ المعهود، وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [الْبَقَرَةِ: ٢١٠] .
المسألة الثَّامِنَةُ: قُرِئَ: وَنُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ، وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ، وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ، وَنُزِلَتِ الْمَلَائِكَةُ وَنُزِلَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى حَذْفِ النُّونِ الَّذِي هُوَ فَاءُ الْفِعْلِ مَنْ نُنْزِلُ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِذَلِكَ الْيَوْمِ: قَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ قَالَ الزَّجَّاجُ الْحَقُّ صِفَةٌ لِلْمُلْكِ وَتَقْدِيرُهُ الْمُلْكُ الْحَقُّ يَوْمَئِذٍ لِلرَّحْمَنِ، وَيَجُوزُ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ وَمَعْنَى/ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ حَقًّا أَنَّهُ لَا يَزُولُ وَلَا يَتَغَيَّرُ، فَإِنْ قِيلَ: مِثْلُ هَذَا الْمُلْكِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ إِلَّا لِلرَّحْمَنِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا مَالِكَ سِوَاهُ لَا فِي الصُّورَةِ وَلَا فِي الْمَعْنَى، فَتَخْضَعُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَعْنُو لَهُ الْوُجُوهُ وَتَذِلُّ لَهُ الْجَبَابِرَةُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه الثَّوَابُ وَالْعِوَضُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ بِتَرْكِهِ فَكَانَ خَائِفًا مِنْ أَنْ لَا يَفْعَلَ فَلَمْ يَكُنْ مُلْكًا مُطْلَقًا وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شيئا