للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الْأُولَى: قِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ أَبُو جَهْلٍ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّهُ أَوْفَقُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الظَّهِيرِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الظَّهِيرَ بِمَعْنَى الْمُظَاهِرِ، كَالْعَوِينِ بِمَعْنَى الْمُعَاوِنِ، وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ غَيْرُ (غَرِيبٍ) «١» ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ يُظَاهِرُ الشَّيْطَانَ عَلَى رَبِّهِ بِالْعَدَاوَةِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ فِي الْكَافِرِ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى رَبِّهِ بِالْعَدَاوَةِ؟ قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ نَفْسَهُ وَأَرَادَ رَسُولَهُ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: ٥٧] وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالظَّهِيرِ الْجَمَاعَةَ، كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيمِ: ٤] كَمَا جَاءَ الصَّدِيقُ وَالْخَلِيطُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْجِنْسَ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ مُظَاهِرٌ لِبَعْضٍ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ [دِينِ] «٢» اللَّه تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الْأَعْرَافِ: ٢٠٢] ، وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الظَّهِيرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ظَهَرَ فُلَانٌ بِحَاجَتِي إِذَا نَبَذَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هُودٍ: ٩٢] ويقال فيمن يستهين بالشيء: نبذه وراء وَقِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ مَظْهُورٌ، أَيْ مُسْتَخَفٌّ بِهِ مَتْرُوكٌ وَرَاءَ الظَّهْرِ، فَقِيلَ فِيهِ ظَهِيرٌ فِي مَعْنَى مَظْهُورٍ، وَمَعْنَاهُ هَيِّنٌ عَلَى اللَّه أَنْ يَكْفُرَ الْكَافِرُ وَهُوَ تَعَالَى مُسْتَهِينٌ بِكُفْرِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً فَتَعَلُّقُ ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ، هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ الْعَوْنَ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ، واللَّه تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ لِنَفْعِهِمْ، لِأَنَّهُ بَعَثَهُ لِيُبَشِّرَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَيُنْذِرَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَيَسْتَحِقُّوا الثَّوَابَ وَيَحْتَرِزُوا عَنِ الْعِقَابِ، فَلَا جَهْلَ أَعْظَمُ مِنْ جَهْلِ مَنِ اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِي إِيذَاءِ شَخْصٍ اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِي إِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ دِينًا وَدُنْيَا، وَلَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ أَجْرًا.

أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ شاءَ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا مُتَقَارِبَةً أَحَدُهَا: لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى الْأَدَاءِ وَالدُّعَاءِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ يَشَاءُوا أَنْ يَتَقَرَّبُوا بِالْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، فَيَتَّخِذُوا بِهِ سَبِيلًا إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِمْ وَنَيْلِ ثَوَابِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَاضِي:

مَعْنَاهُ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا لِنَفْسِي وَأَسْأَلُكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا الْأَجْرَ لِأَنْفُسِكُمْ بِاتِّخَاذِ السَّبِيلِ إِلَى رَبِّكُمْ وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مِثَالُ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ وَالْمُرَادُ إِلَّا فِعْلَ مَنْ شَاءَ، وَاسْتِثْنَاؤُهُ عَنِ الْأَجْرِ قَوْلُ ذِي شَفَقَةٍ عَلَيْكَ قَدْ سَعَى لَكَ فِي تَحْصِيلِ مَالٍ مَا أَطْلُبُ مِنْكَ ثَوَابًا عَلَى مَا سَعَيْتُ، إِلَّا أَنْ تَحْفَظَ هَذَا الْمَالَ وَلَا تُضَيِّعَهُ، فَلَيْسَ حِفْظُكَ الْمَالَ لِنَفْسِكِ مِنْ جِنْسِ الثَّوَابِ، وَلَكِنْ صَوَّرَهُ هُوَ بِصُورَةِ الثَّوَابِ وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ فَأَفَادَ فَائِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا قَلْعُ شُبْهَةِ الطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ مِنْ أَصْلِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَكَ إِنْ كَانَ حِفْظُكَ لِمَالِكَ ثَوَابًا، فَإِنِّي أَطْلُبُ الثَّوَابَ، وَالثَّانِيَةُ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ الْبَالِغَةِ، وَأَنَّ حِفْظَكَ لِمَالِكَ يَجْرِي مَجْرَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تُوصِلُهُ إِلَيَّ، وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ إِلَى اللَّه سَبِيلًا، تَقَرُّبُهُمْ إِلَيْهِ وَطَلَبُهُمْ عِنْدَهُ الزُّلْفَى بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ التَّقَرُّبُ بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّه.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُتَظَاهِرُونَ عَلَى إِيذَائِهِ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَجْرًا الْبَتَّةَ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي دَفْعِ جَمِيعِ الْمَضَارِّ، وَفِي جَلْبِ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا قَالَ: عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ لِأَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الحي الذي يموت، فإذا مات المتوكل


(١) في الكشاف (عزيز) ٣/ ٩٧ ط. دار الفكر.
(٢) زيادة من الكشاف.

<<  <  ج: ص:  >  >>