للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْجُدْرَانِ الْمَائِيَّةِ كُوًى يَنْظُرُ مِنْهَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ مُعْجِزٌ رَابِعٌ وَخَامِسُهَا: أَنْ أَبْقَى اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الْمَسَالِكَ حَتَّى قَرُبَ مِنْهَا آلُ فِرْعَوْنَ وَطَمِعُوا أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنَ الْبَحْرِ كَمَا تَخَلَّصَ قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ مُعْجِزٌ خَامِسٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ فَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَزْلَفْنا أَيْ وَقَرَّبْنَا ثَمَّ أَيْ حَيْثُ انْفَلَقَ الْبَحْرُ لِلْآخَرِينَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ثَمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قَرَّبْنَاهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَثَانِيهَا: قَرَّبْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَجَمَعْنَاهُمْ حَتَّى لَا يَنْجُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَثَالِثُهَا: قَدَّمْنَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: وَأَزْلَفْنا أَيْ حَبَسْنَا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ عِنْدَ طَلَبِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ أَظْلَمْنَا عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا بِسَحَابَةٍ وَقَفَتْ عَلَيْهِمْ فَوَقَفُوا حَيَارَى، وَقُرِئَ وَأَزْلَقْنَا بِالْقَافِ أَيْ أَزْلَلْنَا أَقْدَامَهُمْ/ وَالْمَعْنَى أَذْهَبْنَا عِزَّهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّه طَرِيقَهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى خِلَافِ مَا جَعَلَهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يَبَسًا وَأَزْلَقَهُمْ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ الْإِزْلَافَ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ هُنَالِكَ فِي طَلَبِ مُوسَى كُفْرٌ أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ تَبِعُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى فَلَمَّا كَانَ مَسِيرُهُمْ بِتَدْبِيرِهِ وَهَؤُلَاءِ تَبِعُوا ذَلِكَ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَوَسُّعًا وَهَذَا كَمَا يَتْعَبُ أَحَدُنَا فِي طَلَبِ غُلَامٍ لَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَتْعَبَنِي الْغُلَامُ لَمَّا حَدَثَ ذَلِكَ فَعَلَهُ الثَّانِي: قِيلَ: وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أَيْ أَزْلَفْنَاهُمْ إِلَى الْمَوْتِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَرُبُوا مِنْ أَجَلِهِمْ وَأَنْشَدَ:

وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٌ سَلَفَتْ ... فِيهَا النُّفُوسُ إِلَى الْآجَالِ تَزْدَلِفُ

وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَلُمَ عَنْهُمْ، وَتَرَكَ الْبَحْرَ لَهُمْ يَبَسًا وَطَمِعُوا فِي عُبُورِهِ جَازَتِ الْإِضَافَةُ كَالرَّجُلِ يَسْفَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ مِرَارًا فَيَحْلُمُ عَنْهُ، فَإِذَا تَمَادَى فِي غَيِّهِ وَأَرَاهُ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ أَنَا أَحْوَجْتُكَ إِلَى هَذَا وَصَيَّرْتُكَ إِلَيْهِ بِحِلْمِي، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ مَا فَعَلَ الثَّانِي: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَزْلَفَهُمْ أَيْ جَمْعَهُمْ لِيُغْرِقَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلِكَيْ لَا يَصِلُوا إِلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ هَلْ لَهُ أَثْرٌ فِي اسْتِجْلَابِ دَاعِيَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِلَى الذَّهَابِ خَلْفَهُمْ أَوْ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّ لِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى أَثَرًا فِي حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَلِكَ الْإِزْلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ أَثَرٌ الْبَتَّةَ فَقَدْ زَالَ التَّعَلُّقُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَحْسُنَ الْإِضَافَةُ، وَأَمَّا إِذَا تَعِبَ أَحَدُنَا فِي طَلَبِ غُلَامٍ لَهُ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَتْعَبَنِي ذَلِكَ الْغُلَامُ لِمَا أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ الْغُلَامِ صَارَ كَالْمُؤَثِّرِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ التَّعَبِ لِأَنَّهُ مَتَى فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا لِلسَّيِّدِ، وَمَتَى عَلِمَهُ صَارَ عِلْمُهُ دَاعِيًا لَهُ إِلَى ذَلِكَ التَّعَبِ، وَمُؤَثِّرًا فِيهِ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَعِنْدَنَا الْقَادِرُ لَا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ إِلَّا بِالدَّاعِي فَالدَّاعِي مُؤَثِّرٌ فِي صَيْرُورَةِ الْقَادِرِ مُؤَثِّرًا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا جَرَمَ حَسُنَتِ الْإِضَافَةُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ أَزْلَفَهُمْ لِيُغْرِقَهُمْ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَزْلَفَهُمْ بَلْ هُمْ بِأَنْفُسِهِمُ ازْدَلَفُوا ثُمَّ حَصَلَ الْغَرَقُ بَعْدَهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِضَافَةُ هَذَا الْإِزْلَافِ إِلَى اللَّه تَعَالَى؟ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الدَّاعِيَةَ الْمُسْتَعْقِبَةَ لِذَلِكَ الِازْدِلَافِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ وَهُوَ أَنَّ حِلْمَهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَحَمْلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَنَقُولُ ذَلِكَ الْحِلْمُ هَلْ لَهُ أَثَرٌ فِي اسْتِجْلَابِ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ أَمْ لَا؟ وَبَاقِي التَّقْرِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الرَّابِعِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي واللَّه أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْبَحْرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>