للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَصَّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ تَسْلِيَةً لَهُ فِيمَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ قَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا نَبَأَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدْ كَانَ نَبَؤُهُ أَعْظَمَ مِنْ نَبَأِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُوهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَمَعَ ذَلِكَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ فَقَالَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ وَإِنَّمَا قَالَ (كَذَّبَتْ) لِأَنَّ الْقَوْمَ مُؤَنَّثٌ وَتَصْغِيرُهَا قُوَيْمَةٌ، وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَذَّبُوا نُوحًا لَكِنَّ تَكْذِيبَهُ فِي الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ طَرِيقَةَ مَعْرِفَةِ الرُّسُلِ لَا تَخْتَلِفُ فَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَذَّبُوا بِجَمِيعِ رُسُلِ اللَّه تَعَالَى، إِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الزَّنَادِقَةِ أَوْ مِنَ الْبَرَاهِمَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَخُوهُمْ فَلِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ يُرِيدُونَ يَا وَاحِدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَوَّلًا خَوَّفَهُمْ، وَثَانِيًا أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ، أَمَّا التَّخْوِيفُ فَهُوَ قَوْلُهُ: أَلا تَتَّقُونَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا قَبِلُوا تِلْكَ الْأَدْيَانَ لِلتَّقْلِيدِ وَالْمُقَلِّدُ إِذَا خُوِّفَ خَافَ، وَمَا لَمْ يَحْصُلِ الْخَوْفُ فِي قَلْبِهِ لَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِدْلَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ عَلَى جَمِيعِ كَلِمَاتِهِ قَوْلَهُ: أَلا تَتَّقُونَ. وَأَمَّا وَصْفُهُ نَفْسَهُ فَذَاكَ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَشْهُورًا بِالْأَمَانَةِ كَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُرَيْشٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَمِينًا مِنْ قَبْلُ، فَكَيْفَ تَتَّهِمُونِي الْيَوْمَ؟ وَثَانِيهِمَا: قوله: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أَيْ عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ لِئَلَّا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ دَعَاهُمْ لِلرَّغْبَةِ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَاذَا كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى؟ جَوَابُهُ: لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ أَرَادَ ألا

<<  <  ج: ص:  >  >>