للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الاختيارية نافذة من الدماغ من دُونَ الْقَلْبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآفَةَ إِذَا حَلَّتْ فِي الدِّمَاغِ اخْتَلَّ الْعَقْلُ وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِي الْعُرْفِ كُلُّ مَنْ أُرِيدَ وَصْفُهُ بِقِلَّةِ الْعَقْلِ قِيلَ إِنَّهُ خَفِيفُ الدِّمَاغِ خَفِيفُ الرَّأْسِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْعَقْلَ أَشْرَفُ فَيَكُونُ مَكَانُهُ أَشْرَفَ، وَالْأَعْلَى هُوَ الْأَشْرَفُ وَذَلِكَ هُوَ الدِّمَاغُ لَا الْقَلْبُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحِلُّ الْعَقْلِ هُوَ الدِّمَاغَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْحَوَاسُّ تُؤَدِّي آثَارُهَا إِلَى الدِّمَاغِ، ثُمَّ إِنِ الدِّمَاغَ يُؤَدِّي تِلْكَ الْآثَارَ إِلَى الْقَلْبِ، فالدماغ آلة قريبة للقلب/ لِلْقَلْبِ وَالْحَوَاسُّ آلَاتٌ بَعِيدَةٌ فَالْحِسُّ يَخْدِمُ الدِّمَاغَ، ثُمَّ الدِّمَاغُ يَخْدِمُ الْقَلْبَ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّا نُدْرِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّا إِذَا عَقَلْنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ يَجِبُ فِعْلُهُ أَوْ يَجِبُ تَرْكُهُ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ تَتَحَرَّكُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَجِدُ التَّعَقُّلَاتِ مِنْ جَانِبِ الْقَلْبِ لَا مِنْ جَانِبِ الدِّمَاغِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَأَدَّى الْأَثَرُ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الدِّمَاغِ، ثُمَّ الدِّمَاغُ يُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ بِوَاسِطَةِ الْأَعْصَابِ النَّابِتَةِ مِنْهُ، وَعَنِ الثَّالِثِ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ سَلَامَةُ الدِّمَاغِ شَرْطًا لِوُصُولِ تَأْثِيرِ الْقَلْبِ إِلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ ذَلِكَ الْعُرْفَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِنَّمَا يَعْتَدِلُ مِزَاجُهُ بِمَا يَسْتَمِدُّ مِنَ الدِّمَاغِ مِنْ بُرُودَتِهِ، فَإِذَا لَحِقَ الدِّمَاغَ خُرُوجٌ عَنِ الِاعْتِدَالِ خَرَجَ الْقَلْبُ عَنِ الِاعْتِدَالِ أَيْضًا، إِمَّا لِازْدِيَادِ حَرَارَتِهِ عَنِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ أَوْ لِنُقْصَانِ حَرَارَتِهِ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ الْعَقْلُ وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْعَقْلِ هُوَ الْقِحْفَ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ واللَّه أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي بَيَّنَّا كَوْنَهَا مُخْتَصَّةً بِالْقُلُوبِ قَدْ تُضَافُ إِلَى الصَّدْرِ تَارَةً وَإِلَى الْفُؤَادِ أُخْرَى، أَمَّا الصَّدْرُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [الْعَادِيَاتِ: ١٠] وَقَوْلِهِ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [هود: ٥] ، وإِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٩] وَأَمَّا الْفُؤَادُ فَقَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الْأَنْعَامِ: ١١٠] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ فَقَالَ: الْقَلْبُ هُوَ الْعَلَقَةُ السَّوْدَاءُ فِي جَوْفِ الْفُؤَادِ دُونَ مَا يَكْتَنِفُهَا مِنَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الْفُؤَادُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَلْبُ وَالْفُؤَادُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَكَيْفَ كَانَ فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْعُضْوِ الْمُسَمَّى قَلْبًا وَفُؤَادًا مَوْضِعًا هُوَ الْمَوْضِعُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْعَقْلِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّ مُعْظَمَ جِرْمِ هَذَا الْعُضْوِ مُسَخَّرٌ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ مُسَخَّرَةٌ لِلْقَلْبِ، فَإِنَّ الْعُضْوَ قَدْ تَزِيدُ أَجْزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ ازْدِيَادِ الْمَعَانِي الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ أَعْنِي الْعَقْلَ وَالْفَرَحَ وَالْحُزْنَ وَقَدْ يَنْقُصُ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ فِي تِلْكَ الْمَعَانِي، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْقَلْبِ اسْمًا لِلْأَجْزَاءِ الَّتِي تَحِلُّ فِيهَا هَذِهِ الْمَعَانِي بِالْحَقِيقَةِ، وَاسْمُ الْفُؤَادِ يَكُونُ اسْمًا لِمَجْمُوعِ الْعُضْوِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ واللَّه الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِنْذَارِ الدُّعَاءُ إِلَى كُلِّ وَاجِبٍ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَالْمَنْعُ مَنْ كُلِّ قَبِيحٍ لِأَنَّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا يَدْخُلُ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فَالْبَاءُ إِمَّا أَنْ تتعلق بالمنذرين فَيَكُونَ الْمَعْنَى لِتَكُونَ مِنَ الَّذِينَ أَنْذَرُوا بِهَذَا اللِّسَانِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَإِسْمَاعِيلُ ومحمد عليهم السلام، وإما أن تتعلق بنزل فَيَكُونَ الْمَعْنَى نَزَلَّهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لِيُنْذِرَ بِهِ لأنه لو نزله باللسان الأعجمي [لتجافوا عنه أصلا و] «١» لَقَالُوا لَهُ مَا نَصْنَعُ بِمَا لَا نَفْهَمُهُ فَيَتَعَذَّرُ الْإِنْذَارُ بِهِ، وَفِي هَذَا الوجه أَنَّ تَنْزِيلَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِسَانُكَ وَلِسَانُ قَوْمِكَ تَنْزِيلٌ لَهُ عَلَى قَلْبِكَ لِأَنَّكَ تَفْهَمُهُ وَيَفْهَمُهُ قَوْمُكَ، وَلَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا لَكَانَ نَازِلًا عَلَى سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس


(١) زيادة من الكشاف ٣/ ١٢٨ ط. دار الفكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>