للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِهِ لِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» ، فَلَمَّا عُوتِبَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ النِّسْيَانِ. لِأَنَّا نَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ قَبِلَا مِنْ إِبْلِيسَ ذَلِكَ الْكَلَامَ وَلَا صَدَّقَاهُ فِيهِ، لِأَنَّهُمَا لَوْ صَدَّقَاهُ لَكَانَتْ مَعْصِيَتُهُمَا فِي هَذَا التَّصْدِيقِ أَعْظَمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، لَأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ لَهُمَا: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ. فَقَدْ أَلْقَى إِلَيْهِمَا سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَدَعَاهُمَا إِلَى تَرْكِ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ وَإِلَى أَنْ يَعْتَقِدَا فِيهِ كَوْنَ إِبْلِيسَ نَاصِحًا لَهُمَا وَأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَدْ غَشَّهُمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُعَاتَبَةُ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ وَأَيْضًا كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِتَمَرُّدِ إِبْلِيسَ عَنِ السُّجُودِ وَكَوْنِهِ مُبْغِضًا لَهُ وَحَاسِدًا لَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنَّ يَقْبَلَ قَوْلَ عَدُوِّهِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمَا أَقْدَمَا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ عِنْدَ ذَلِكَ الْكَلَامِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ عَالِمًا بِعَدَاوَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: ١١٧] . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ أَثَرٌ مَرْوِيٌّ بِالْآحَادِ، فَكَيْفَ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ؟ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْعِتَابَ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى تَرْكِ/ التَّحَفُّظِ مِنْ أَسْبَابِ النِّسْيَانِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ السَّهْوِ مَوْضُوعٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِهِ، وَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ لِعِظَمِ خَطَرِهِمْ ومثلوه بقوله تعالى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَابِ: ٣٢] ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَابِ: ٣٠] .

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» .

وَقَالَ أَيْضًا: «إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوَعَكُ الرَّجُلَانِ مِنْكُمْ» ،

فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ عِظَمُ حَالِهِمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ فِي حُصُولِ شَرْطٍ فِي تَكْلِيفِهِمْ دُونَ تَكْلِيفِ غَيْرِهِمْ؟ قُلْنَا أَمَا سَمِعْتَ: «حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ» ، وَلَقَدْ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِي التَّكْلِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِ. فَهَذَا فِي تَقْرِيرِ أَنَّهُ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ. وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ حَوَّاءَ سَقَتْهُ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ السُّكْرِ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي تَنَاوُلِ كُلِّ الْأَشْيَاءِ سِوَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَإِذَا حَمَلْنَا الشَّجَرَةَ عَلَى الْبُرِّ، كَانَ مَأْذُونًا فِي تَنَاوُلِ الْخَمْرِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ لَا يُسْكِرُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ خَمْرِ الْجَنَّةِ: لَا فِيها غَوْلٌ [الصَّافَّاتِ: ٤٧] . أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ عَامِدًا فَهَهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا القول وعلته.

الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً مَعَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نبياً، وقد عرفت فساد هذا الْقَوْلُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَهُ عَمْدًا، لَكِنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْوَجَلِ وَالْفَزَعِ وَالْإِشْفَاقِ مَا صَيَّرَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا بَاطِلٌ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ الْمُقْدِمَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَمْدًا وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ الْخَوْفِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ عَاصِيًا مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ وَالذَّمِّ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَلَا يَصِحُّ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالنِّسْيَانِ فِي قَوْلِهِ: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعَمْدِيَّةَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ بِسَبَبِ اجْتِهَادٍ أَخْطَأَ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الذَّنْبِ كَبِيرَةً، بَيَانُ الِاجْتِهَادِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَلَفْظُ هذِهِ قَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى الشَّخْصِ، وَقَدْ يُشَارُ بِهِ إِلَى النَّوْعِ،

وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ حَرِيرًا وَذَهَبًا بِيَدِهِ وَقَالَ: «هَذَانِ حِلٌّ لِإِنَاثِ أُمَّتِي حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِهِمْ» ،

وَأَرَادَ بِهِ نَوْعَهُمَا،

وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة