للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اعْتِقَادٍ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ بِسَبَبٍ مُنَبِّهٍ نَبَّهَ عَلَيْهِ كَانَ الْفِعْلُ مُضَافًا إِلَى ذَلِكَ لِمَا لِأَجْلِهِ صَارَ الْفَاعِلُ بِالْقُوَّةِ فَاعِلًا بِالْفِعْلِ، فلهذا المعنى انضاف الفعل هاهنا إِلَى الْوَسْوَسَةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ إِنَّ زَلَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَبْ أَنَّهَا كَانَتْ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، فَمَعْصِيَةُ إِبْلِيسَ حصلت بوسوسة من! وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَحْصُلِ الدَّاعِي لَا يَحْصُلُ الْفِعْلُ وَأَنَّ الدَّوَاعِيَ وَإِنْ تَرَتَّبَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا بُدَّ مِنِ انْتِهَائِهَا إِلَى مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] . السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الْوَسْوَسَةُ، الْجَوَابُ: أَنَّهَا هِيَ الَّتِي حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٠] ، فَلَمْ يَقْبَلَا ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ ذَلِكَ عَدَلَ إِلَى الْيَمِينِ عَلَى مَا قَالَ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢١] ، فَلَمْ يُصَدِّقَاهُ أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَدَلَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ شَغَلَهُمَا بِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الْمُبَاحَةِ حَتَّى صَارَا مُسْتَغْرِقَيْنِ فِيهِ فَحَصَلَ بِسَبَبِ اسْتِغْرَاقِهِمَا فِيهِ نِسْيَانُ النَّهْيِ فَعِنْدَ ذَلِكَ حَصَلَ مَا حَصَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ كَيْفَ كَانَتْ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَنْ قَالَ إِنَّ جَنَّةَ آدَمَ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ فَسَّرَ الْهُبُوطَ بِالنُّزُولِ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَرْضِ فَسَّرَهُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً [الْبَقَرَةِ: ٦١] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَا مُخَاطَبَيْنِ بِهِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ إِبْلِيسَ دَاخِلٌ فِيهِ أَيْضًا قَالُوا لِأَنَّ إِبْلِيسَ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أَيْ فَأَزَلَّهُمَا وَقُلْنَا لَهُمُ اهْبِطُوا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَهَذَا تَعْرِيفٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَهُمَا وَلِذُرِّيَّتِهِمَا كَمَا عَرَّفَهُمَا ذَلِكَ قَبْلَ الأكل من الشجرة فقال: فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: ١١٧] ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَبَى مِنَ السُّجُودِ صَارَ كَافِرًا/ وأخرج من الجنة وقيل لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الْأَعْرَافِ: ١٣] ، وَقَالَ أَيْضًا: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص: ٧٧، الْحِجْرِ: ٣٤] ، وَإِنَّمَا أُهْبِطَ مِنْهَا لِأَجْلِ تَكَبُّرِهِ، فَزَلَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهُبُوطِ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ هُبُوطُ إِبْلِيسَ قَبْلَ ذَلِكَ كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا، مُتَنَاوِلًا لَهُ؟

قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَعَلَّهُ عَادَ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً أُخْرَى لِأَجْلِ أَنْ يُوَسْوِسَ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ فَحِينَ كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ فِي الْجَنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا: اهْبِطا [طه: ١٢٣] ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنَ الْجَنَّةِ وَاجْتَمَعَ إِبْلِيسُ مَعَهُمَا خَارِجَ الْجَنَّةِ أَمَرَ الْكُلَّ فَقَالَ: اهْبِطُوا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: اهْبِطُوا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ قَالَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ فِي وَقْتٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْحَيَّةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ هَذَا الْإِجْمَاعَ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ قَدْ يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النُّورِ: ٤١] ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلْهُدْهُدِ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْلِ: ٢١] . الثَّالِثُ: الْمُرَادُ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَذُرِّيَّتُهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَصْلَ الْإِنْسِ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا الْإِنْسُ كُلُّهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ