للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى الضِّدِّ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيْلَكَ أَصْلُهُ الدُّعَاءُ بِالْهَلَاكِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَالْبَعْثِ عَلَى تَرْكِ مَا لَا يُرْتَضَى.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَا يُوَفَّقُ لَهَا وَالضَّمِيرُ فِي يُلَقَّاهَا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً يَعْنِي هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يُؤْتَاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي، وَلَا يُلَقَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَهِيَ قَوْلُهُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَعَلَى الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ فِي كُلِّ مَا قَسَمَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا أَشِرَ وَبَطِرَ وَعَتَا خَسَفَ اللَّهُ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ جَزَاءً عَلَى عُتُوِّهِ وَبَطَرِهِ، وَالْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَاءَ تُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ وَثَانِيهَا: قِيلَ إِنَّ قَارُونَ كَانَ يُؤْذِي نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ وَقْتٍ وَهُوَ يُدَارِيهِ لِلْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا حَتَّى نَزَلَتِ الزَّكَاةُ فَصَالَحَهُ عَنْ كُلِّ أَلْفِ دِينَارٍ عَلَى دِينَارٍ، وَعَنْ كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى دِرْهَمٍ فَحَسَبَهُ فَاسْتَكْثَرَهُ فَشَحَّتْ نَفْسُهُ فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ:

إِنَّ مُوسَى يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ أَمْوَالَكُمْ فَقَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَكَبِيرُنَا فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ، قَالَ: نُبَرْطِلُ فُلَانَةَ الْبَغِيَّ حَتَّى تَنْسُبَهُ إِلَى نَفْسِهَا فَيَرْفُضَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ لَهَا طَسْتًا مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءًا ذَهَبًا فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ قَامَ مُوسَى فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَاهُ، وَمَنْ زَنَى وَهُوَ [غَيْرُ] مُحْصَنٍ جَلَدْنَاهُ وَإِنْ أَحْصَنَ رَجَمْنَاهُ، فَقَالَ قَارُونُ وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ أَنَا، قَالَ: فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُونَ إِنَّكَ فَجَرْتَ بِفُلَانَةَ فَأُحْضِرَتْ فَنَاشَدَهَا مُوسَى بِاللَّهِ الَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ أَنْ تَصْدُقَ فَتَدَارَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَتْ: كَذَبُوا بَلْ جَعَلَ لِي قَارُونُ جُعْلًا عَلَى أَنْ أَقْذِفَكَ بِنَفْسِي، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا يَبْكِي، وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنْ كُنْتُ رَسُولَكَ فَاغْضَبْ لِي، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَنْ مُرِ الْأَرْضَ بِمَا شِئْتَ فَإِنَّهَا مُطِيعَةٌ لَكَ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَى قَارُونَ كَمَا بَعَثَنِي إِلَى فِرْعَوْنَ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَلْيَلْزَمْ مَكَانَهُ وَمَنْ كَانَ مَعِيَ فَلْيَعْتَزِلْ فَاعْتَزَلُوا جَمِيعًا غَيْرَ رَجُلَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى الرُّكَبِ ثُمَّ قَالَ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى الْأَوْسَاطِ ثُمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى الْأَعْنَاقِ وَقَارُونُ وَأَصْحَابُهُ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُنَاشِدُونَهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَمُوسَى لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ، ثُمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ فَانْطَبَقَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَفَظَّكَ اسْتَغَاثُوا بِكَ مِرَارًا فلم ترحمهم، أما وعزتي لودعوني مَرَّةً وَاحِدَةً لَوَجَدُونِي قَرِيبًا مُجِيبًا فَأَصْبَحَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَنَاجَوْنَ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا دَعَا مُوسَى عَلَى قَارُونَ لِيَسْتَبِدَّ بِدَارِهِ وَكُنُوزِهِ فَدَعَا اللَّهَ حَتَّى خَسَفَ بِدَارِهِ وَأَمْوَالِهِ، ثُمَّ إِنَّ قَارُونَ يُخْسَفُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ قَامَةٍ، قَالَ الْقَاضِي: إِذَا هَلَكَ بِالْخَسْفِ فَسَوَاءٌ نَزَلَ عَنْ ظَاهِرِ الْأَرْضِ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مَا رُوِيَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَوِ اسْتَغَاثَ بِي لَأَغَثْتُهُ، فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى اسْتِغَاثَةٍ مَقْرُونَةٍ بِالتَّوْبَةِ فَأَمَّا وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِذَلِكَ الْخَسْفِ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا فَعَلَهُ إِلَّا عَنْ أَمْرِهِ فَبَعِيدٌ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا فَبَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِهَايَةٍ وَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ عَدَدِ الْقَامَاتِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ أَنَّهَا قَلِيلَةُ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةً عَمَلِيَّةً حَتَّى يُكْتَفَى فِيهَا بِالظَّنِّ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ مُتَعَارِضَةٌ مُضْطَرِبَةٌ فَالْأَوْلَى طَرْحُهَا وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ نَصُّ الْقُرْآنِ وَتَفْوِيضُ سَائِرِ التَّفَاصِيلِ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ فَالْمُرَادُ مِنَ الْمُنْتَقِمِينَ مِنْ مُوسَى أَوْ مِنَ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ عَذَابِ/ الله

<<  <  ج: ص:  >  >>