الْإِيذَاءُ إِلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ، وَيَكُونُ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًا بِالْإِيمَانِ فَلَا يَتْرُكُ اللَّهَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ بَلْ تَرَكَ اللَّهَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْمُؤْمِنُ أُوذِيَ وَلَمْ يَتْرُكْ سَبِيلَ اللَّهِ بَلْ أَظْهَرَ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ وَصَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ صَارِفَةً عَنِ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ صَارِفٌ عَنِ الْكُفْرِ، وَقِيلَ جَزِعُوا مِنْ عَذَابِ النَّاسِ كَمَا جَزِعُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِتْنَةَ النَّاسِ مَعَ ضَعْفِهَا وَانْقِطَاعِهَا كَعَذَابِ اللَّهِ الْأَلِيمِ الدَّائِمِ حَتَّى تَرَدَّدُوا فِي الْأَمْرِ، وَقَالُوا إِنْ آمَنَّا نَتَعَرَّضُ لِلتَّأَذِّي مِنَ النَّاسِ وَإِنْ تَرَكْنَا الْإِيمَانَ نَتَعَرَّضُ لِمَا تَوَعَّدَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاخْتَارُوا الِاحْتِرَازَ عَنِ التَّأَذِّي الْعَاجِلِ وَلَا يَكُونُ التَّرَدُّدُ إِلَّا عِنْدَ التَّسَاوِي وَمِنْ أَيْنَ إِلَى أَيْنَ تَعْذِيبُ النَّاسِ لَا يَكُونُ شَدِيدًا، وَلَا يَكُونُ مَدِيدًا لِأَنَّ الْعَذَابَ إِنْ كَانَ شَدِيدًا كَعَذَابِ النَّارِ وَغَيْرِهِ يَمُوتُ الْإِنْسَانُ فِي الْحَالِ فَلَا يَدُومُ التَّعْذِيبُ، وَإِنْ كَانَ مَدِيدًا كَالْحَبْسِ وَالْحَصْرِ لَا يَكُونُ شَدِيدًا وَعَذَابُ اللَّهِ شَدِيدٌ وَزَمَانُهُ مَدِيدٌ، وَأَيْضًا عَذَابُ الناس له دافع وعذاب الله ماله مِنْ دَافِعٍ، وَأَيْضًا عَذَابُ النَّاسِ عَلَيْهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، وَعَذَابُ اللَّهِ بَعْدَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالْمَشَقَّةُ إِذَا كَانَتْ مُسْتَعْقِبَةً لِلرَّاحَةِ الْعَظِيمَةِ تَطِيبُ وَلَا تُعَدُّ عَذَابًا كَمَا تُقْطَعُ السِّلْعَةُ الْمُؤْذِيَةُ وَلَا تُعَدُّ عَذَابًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: فِتْنَةَ النَّاسِ وَلَمْ يَقُلْ عَذَابَ النَّاسِ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ وَفِتْنَتُهُ تَسْلِيطُ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ لِيُؤْذِيَهُ فَتَبِينُ مُنْزِلَتُهُ كَمَا جَعَلَ التَّكَالِيفَ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْبَلِيَّةِ الصادرة ابتلاء وامتحانا مِنَ الْإِنْسَانِ كَالصَّبْرِ عَلَى الْعِبَادَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْمُؤْمِنِ مِنْ إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بِالْإِكْرَاهِ، لَأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ بِالْإِكْرَاهِ احْتِرَازًا عَنِ التَّعْذِيبِ الْعَاجِلِ يَكُونُ قَدْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، فَنَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَجْعَلْ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ يُوجِبُ تَرْكَ مَا يُعَذِّبُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهَذَا الْمُؤْمِنَ الْمُكْرَهَ لَمْ يَجْعَلْ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، بِحَيْثُ يَتْرُكُ مَا يُعَذِّبُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بَلْ فِي بَاطِنِهِ الْإِيمَانُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ يَعْنِي دَأْبُ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ إِنْ رَأَى الْيَدَ لِلْكَافِرِ أَظْهَرَ مَا أَضْمَرَ وَأَظْهَرَ الْمَعِيَّةَ وَادَّعَى التَّبَعِيَّةَ، وَفِيهِ فَوَائِدُ نذكرها في مسائل:
الْأُولَى: قَالَ: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ وَلَمْ يَقُلْ مِنَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ كُلُّهُ بِذِكْرِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ:
أُوذِيَ فِي اللَّهِ وَقَوْلُهُ: كَعَذابِ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّبَّ اسْمٌ مَدْلُولُهُ الْخَاصُّ بِهِ الشَّفَقَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَاللَّهُ اسْمٌ مَدْلُولُهُ الْهَيْبَةُ وَالْعَظَمَةُ، فَعِنْدَ النَّصْرِ ذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْعَاطِفَةِ، وَعِنْدَ الْعَذَابِ ذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْعَظَمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ وَلَئِنْ جَاءَكُمْ أَوْ جَاءَكَ بَلْ قَالَ: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ وَالنَّصْرُ لَوْ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ: إِنَّا مَعَكُمْ إِذَا جَاءَ نَصْرٌ سَوَاءٌ جَاءَهُمْ أَوْ جَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ إِنَّا مَعَكُمْ إِذَا جَاءَ النَّصْرُ، لَكِنَّ النَّصْرَ لَا يَجِيءُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، كما قال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الرُّومِ: ٤٧] وَلِأَنَّ غَلَبَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَيْسَ بِنَصْرٍ، لِأَنَّ النَّصْرَ مَا يَكُونُ عَاقِبَتُهُ سَلِيمَةً بِدَلِيلِ أَنَّ أَحَدَ الْجَيْشَيْنِ إِنِ انْهَزَمَ فِي الْحَالِ ثُمَّ كَرَّ الْمُنْهَزِمُ كَرَّةً أُخْرَى وَهَزَمُوا الْغَالِبِينَ، لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمَنْصُورِ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ الْعَاقِبَةُ، فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَإِنْ كُسِرَ فِي الْحَالِ فَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، فَالنَّصْرُ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute