للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَشْغَالِ كَثِيرًا مَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَالنَّوْمِ فِي وَقْتِهِ وَغَيْرِهِ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مُطْلَقًا وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الصَّلَاةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَعَ الْحُضُورِ وَهِيَ تَنْهَى، حَتَّى

نقل عنه صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْمَعَاصِي لَمْ يَزْدَدْ بِهَا إِلَّا بُعْدًا»

وَنَحْنُ نَقُولُ الصَّلَاةُ الصَّحِيحَةُ شَرْعًا تَنْهَى عَنِ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا وَهِيَ الَّتِي أَتَى بِهَا الْمُكَلَّفُ لِلَّهِ حَتَّى لَوْ قَصَدَ بِهَا الرِّيَاءَ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ شَرْعًا وَتَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَنْ نَوَى بِوُضُوئِهِ الصَّلَاةَ وَالتَّبَرُّدَ قِيلَ لَا يَصِحُّ فَكَيْفَ مَنْ نَوَى بِصَلَاتِهِ اللَّهَ وَغَيْرَهُ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الصَّلَاةُ تَنْهَى مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَخْدِمُ مَلِكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ وَيَكُونُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ، وَيَرَى عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ قَدْ طَرَدَهُ طردا لا يتصور قبوله، وفاته الخبر بِحَيْثُ لَا يُرْجَى حُصُولُهُ، يَسْتَحِيلُ مِنْ ذَلِكَ الْمُقَرَّبِ عُرْفًا أَنْ يَتْرُكَ خِدْمَةَ الْمَلِكِ وَيَدْخُلَ فِي طَاعَةِ ذَلِكَ الْمَطْرُودِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى لِلَّهِ صَارَ عَبْدًا لَهُ، وَحَصَلَ لَهُ مَنْزِلَةُ الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ، فَيَسْتَحِيلُ مِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَيَدْخُلَ تَحْتَ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ الْمَطْرُودِ، لَكِنَّ مُرْتَكِبَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ تَحْتَ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ الثَّانِي: هُوَ أَنْ مَنْ يُبَاشِرُ الْقَاذُورَاتِ كَالزَّبَّالِ وَالْكَنَّاسِ يَكُونُ لَهُ لِبَاسٌ نَظِيفٌ إِذَا لَبِسَهُ لَا يُبَاشِرُ مَعَهُ الْقَاذُورَاتِ وَكُلَّمَا كَانَ ثَوْبُهُ أَرْفَعَ يَكُونُ امْتِنَاعُهُ وَهُوَ لَابِسُهُ عَنِ الْقَاذُورَاتِ أَكْثَرَ فَإِذَا لَبِسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ثَوْبَ دِيبَاجٍ/ مُذَهَّبٍ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عُرْفًا، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى لَبِسَ لِبَاسَ التَّقْوَى لِأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَاضِعٌ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ عَلَى هَيْئَةِ مَنْ يَقِفُ بِمَرْأَى مَلِكٍ ذِي هَيْبَةٍ، وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرُ لِبَاسٍ يَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ أَعْلَى مِنْ نِسْبَةِ الدِّيبَاجِ الْمُذَهَّبِ إِلَى الْجِسْمِ، فَإِذَنْ مَنْ لَبِسَ هَذَا اللِّبَاسَ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ قَاذُورَاتِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. ثُمَّ إِنَّ الصَّلَوَاتِ مُتَكَرِّرَةٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَيَدُومُ هَذَا اللُّبْسُ فَيَدُومُ الِامْتِنَاعُ الثَّالِثُ: مَنْ يَكُونُ أَمِيرُ نَفْسِهِ يَجْلِسُ حَيْثُ يُرِيدُ فَإِذَا دَخَلَ فِي خِدْمَةِ مَلِكٍ وَأَعْطَاهُ مَنْصِبًا لَهُ مَقَامٌ خَاصٌّ لَا يَجْلِسُ صَاحِبُ ذَلِكَ الْمَنْصِبِ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ فِي صَفِّ النِّعَالِ لَا يُتْرَكُ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى دَخَلَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَبْقَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ وَصَارَ لَهُ مَقَامٌ مُعَيَّنٌ، إِذْ صَارَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَوْقِفُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ لَا يُتْرَكُ، لَكِنَّ مُرْتَكِبَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مِنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَهَذَا الْوَجْهُ إِشَارَةٌ إِلَى عِصْمَةِ اللَّهِ يَعْنِي مَنْ صَلَّى عَصَمَهُ اللَّهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ الرَّابِعُ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْمَلِكِ كَالسُّوقِيِّ وَالْمُنَادِي وَالْمُتَعَيِّشِ لَا يُبَالِي بِمَا فَعَلَ مِنَ الْأَفْعَالِ يَأْكُلُ فِي دُكَّانِ الْهَرَّاسِ وَالرَّوَّاسِ وَيَجْلِسُ مَعَ أَحْبَاشِ النَّاسِ، فَإِذَا صَارَتْ لَهُ قُرْبَةٌ يَسِيرَةٌ مِنَ الْمَلِكِ كَمَا إِذَا صَارَ وَاحِدًا مِنَ الْجُنْدَارِيَّةِ وَالْقُوَّادِ وَالسُّوَّاسِ عِنْدَ الْمَلِكِ لَا تَمْنَعُهُ تِلْكَ الْقُرْبَةُ مِنْ تَعَاطِي مَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَإِذَا زَادَتْ قُرْبَتُهُ وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ حَتَّى صَارَ أَمِيرًا حِينَئِذٍ تَمْنَعُهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ عَنِ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْجُلُوسِ مَعَ أُولَئِكَ الْخُلَّانِ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى وَسَجَدَ صَارَ لَهُ قُرْبَةٌ مَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [الْعَلَقِ: ١٩] فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الْقُرْبَةِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي، فَبِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ تَزْدَادُ مَكَانَتُهُ، حَتَّى يَرَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ آثَارِ الْكَرَامَةِ مَا يَسْتَقْذِرُ مَعَهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّغَائِرَ فَضْلًا عَنِ الْكَبَائِرِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ مَعْقُولٌ يُؤَكِّدُهُ الْمَنْقُولُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ هُوَ أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ التَّعْطِيلِ وَالْإِشْرَاكِ، وَالتَّعْطِيلُ هُوَ إِنْكَارُ وُجُودِ اللَّهِ، وَالْإِشْرَاكُ إِثْبَاتُ أُلُوهِيَّةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ.

فَنَقُولُ التَّعْطِيلُ عَقِيدَةٌ فَحْشَاءُ لِأَنَّ الْفَاحِشَ هُوَ الْقَبِيحُ الظَّاهِرُ الْقُبْحِ، لَكِنَّ وُجُودَ اللَّهِ أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَفِيهِ آيَةٌ عَلَى اللَّهِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْكَارُ الظَّاهِرِ ظَاهِرُ الْإِنْكَارِ، فَالْقَوْلُ بِأَنْ لَا إِلَهَ قَبِيحٌ وَالْإِشْرَاكُ مُنْكَرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَطْلَقَ اسْمَ الْمُنْكَرِ عَلَى مَنْ نَسَبَ نَفْسًا إِلَى غَيْرِ الْوَالِدِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ حَيْثُ قَالَ: إِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>