أَدْرَكَ الْمُكَلَّفُ اللَّهَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ فَقَدْ نَزَّهَهُ عَنِ الْجَهْلِ وَوَصَفَهُ بِضِدِّهِ، وَإِذَا عَرَفَهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَقَدْ نَزَّهَهُ عَنِ الْعَجْزِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُجْرِي فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ لِكَوْنِهِ مُرِيدًا لِكُلِّ كَائِنٍ فَقَدْ وَصَفَهُ وَنَزَّهَهُ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْبَقَاءِ فَقَدْ نَزَّهَهُ، وَإِذَا بَانَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَسْبِقُهُ الْعَدَمُ لِاتِّصَافِهِ بِالْقِدَمِ فَقَدْ نَزَّهَهُ، وَإِذَا لَاحَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يكون عرضا أو جسما أو فِي مَكَانٍ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا بَرِيئًا عَنْ جِهَاتِ الْإِمْكَانِ فَقَدْ نَزَّهَهُ. لَكِنَّ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةَ وَالْإِضَافِيَّةَ لَا يَعُدُّهَا عَادٌّ وَلَوِ اشْتَغَلَ بِهَا وَاحِدٌ لَأَفْنَى فِيهَا عُمُرَهُ وَلَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا. فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ مُسْتَحْضِرًا بِقَلْبِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مُتَنَبِّهًا لِمَا يَقُولُهُ مِنْ كَوْنِهِ مُنَزِّهًا لَهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فَإِتْيَانُهُ بِالتَّسْبِيحِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْإِجْمَالِ يَقُومُ مَقَامَ إِتْيَانِهِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لَكِنْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ مَنْ أَتَى بِالتَّسْبِيحِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ يَكُونُ قَدْ أَتَى بِمَا لَا تَفِي بِهِ الْأَعْمَارُ، فَيَقُولُ هَذَا الْعَبْدُ أَتَى بِتَسْبِيحِي طُولَ عُمُرِهِ وَمُدَّةَ بَقَائِهِ فَأُجَازِيهِ بِأَنْ أُطَهِّرَهُ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَأُزَيِّنَهُ بِخُلَعِ الْكَرَامَةِ وَأُنْزِلَهُ بِدَارِ الْمُقَامَةِ مُدَّةً لَا انْتِهَاءَ لَهَا، وَكَمَا أَنَّ الْعَبْدَ يُنَزِّهُ اللَّهَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ وَوَسَطِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطَهِّرُهُ فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ دُنْيَاهُ وَفِي آخِرِهِ وَهُوَ عُقْبَاهُ وَفِي وَسَطِهِ وَهُوَ حَالَةُ كَوْنِهِ فِي قَبْرِهِ الَّذِي يَحْوِيهِ إِلَى أَوَانِ حَشْرِهِ وَهُوَ مَغْنَاهُ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهُوَ صِفَاتُ الْفِعْلِ فَالْإِنْسَانُ إِذَا نَظَرَ إِلَى خلق الله السموات يَعْلَمُ أَنَّهَا نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَإِذَا رَأَى الشَّمْسَ فِيهَا بَازِغَةً فَيَعْلَمُ أَنَّهَا نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ وَكُلُّ كَوْكَبٍ وَالْأَرْضُ وَكُلُّ نَبَاتٍ وَكُلُّ حَيَوَانٍ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَفِي عُمُرُهُ بِهِ، فَإِذَا اسْتَحْضَرَ فِي ذِهْنِهِ النِّعَمَ الَّتِي لَا تُعَدُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا الْحَمْدُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ يَقُومُ مِنْهُ مَقَامَ الْحَمْدِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَيَقُولُ عَبْدِي اسْتَغْرَقَ عُمُرَهُ فِي حَمْدِي وَأَنَا وَعَدْتُ الشَّاكِرَ بِالزِّيَادَةِ فَلَهُ عَلَى حَسَنَةِ التَّسْبِيحِ الْحُسْنَى وَلَهُ عَلَى حَمْدِهِ الزِّيَادَةُ ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَغْرَقَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ قَدْ يَدْعُوهُ عَقْلُهُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ التَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ، فَكُلُّ مَا يَقَعُ فِي عَقْلِهِ مِنْ حَقِيقَتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ مِمَّا أُدْرِكُهُ، لِأَنَّ الْمُدْرَكَاتِ وَجِهَاتِ الْإِدْرَاكَاتِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا الَّذِي أَدْرَكْتُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَكْبَرُ مِمَّا أَدْرَكْتُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَأَكْبَرُ مِمَّا أَدْرَكْتُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَفْنَى عُمُرُهُ وَلَا يَفِي بِإِدْرَاكِ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلَّهِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ، فَإِذَا قَالَ مَعَ نَفْسِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَيْ مِنْ كُلِّ مَا أَتَصَوَّرُهُ بِقُوَّةِ عَقْلِي وَطَاقَةِ إِدْرَاكِي يَكُونُ مُتَوَغِّلًا فِي الْعِرْفَانِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ
فَقَوْلُ الْقَائِلِ الْمُسْتَيْقِظِ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» مُفِيدٌ لِهَذِهِ الْفَوَائِدِ، لَكِنَّ شَرْطَهُ/ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَبَرًا وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ لَا الَّذِي يَكُونُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَعَشِيًّا عَطْفٌ عَلَى حِينَ أَيْ سَبِّحُوهُ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَعَشِيًّا، وَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْعِبَادَ بِالتَّسْبِيحِ كَأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ تَسْبِيحَهُمُ اللَّهَ لِنَفْعِهِمْ لَا لِنَفْعٍ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ إِذَا سَبَّحُوهُ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: ١٧] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute