فِيهَا وَعِلْمِهِنَّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَشْيَاءَ نَظَرَتْ إِلَى أَنْفُسِهِنَّ فَرَأَيْنَ ضَعْفَهُنَّ فَامْتَنَعْنَ، وَالْإِنْسَانُ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ الْمُكَلِّفِ، وَقَالَ الْمُودِعُ عَالِمٌ قَادِرٌ لَا يَعْرِضُ الْأَمَانَةَ إِلَّا عَلَى أَهْلِهَا وَإِذَا أَوْدَعَ لَا يَتْرُكُهَا بَلْ يَحْفَظُهَا بِعَيْنِهِ وَعَوْنِهِ فَقَبِلَهَا، وَقَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الْفَاتِحَةِ: ٥] .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ آدَمُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْمُخَالَفَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ ثَانِيهَا: الْمُرَادُ الْإِنْسَانُ يَظْلِمُ بِالْعِصْيَانِ وَيَجْهَلُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ ثَالِثُهَا: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أَيْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ/ يُقَالُ فَرَسٌ شَمُوسٌ وَدَابَّةٌ جَمُوحٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ أَيْ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ شَأْنِهِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ فَلَمَّا أُودِعَ الْأَمَانَةَ بَقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ تَرَكَ الظُّلْمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ٨٢] وَتَرَكَ الْجَهْلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: ٣١] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً:
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: ٢٨] رَابِعُهَا: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فِي ظَنِّ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَةِ: ٣٠] وَبَيَّنَ عِلْمَهُ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [الْبَقَرَةِ: ٣١] وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِنَّ الْمَخْلُوقَ عَلَى قِسْمَيْنِ مُدْرِكٌ وَغَيْرُ مُدْرِكٍ، وَالْمُدْرِكُ مِنْهُ مَنْ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّ وَالْجُزْئِيَّ مِثْلُ الْآدَمِيِّ، وَمِنْهُ مَنْ يُدْرِكُ الْجُزْئِيَّ كَالْبَهَائِمِ ثُمَّ تُدْرِكُ الشَّعِيرَ الَّذِي تَأْكُلُهُ وَلَا تَتَفَكَّرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَلَا تَنْظُرُ فِي الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، وَمِنْهُ مَنْ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّ وَلَا يُدْرِكُ الْجُزْئِيَّ كَالْمَلَكِ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا يُدْرِكُ لَذَّةَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ، قَالُوا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [الْبَقَرَةِ: ٣١] فَاعْتَرَفُوا بِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالتَّكْلِيفُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَلَى مُدْرِكِ الْأَمْرَيْنِ إِذْ لَهُ لَذَّاتٌ بِأُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ، فَمُنِعَ مِنْهَا لِتَحْصِيلِ لَذَّاتٍ حَقِيقِيَّةٍ هِيَ مِثْلُ لَذَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا يَكُونُ مُكَلَّفًا لَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِمَا فِيهِ عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ بَلْ بِمَعْنَى الْخِطَابِ فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ يُسَمَّى مُكَلَّفًا لِمَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَاطَبٌ فَسُمِّيَ الْمُخَاطَبُ مُكَلَّفًا وَفِي الْآيَةِ لِطَائِفُ الْأُولَى: الْأَمَانَةُ كَانَ عَرْضُهَا عَلَى آدَمَ فَقَبِلَهَا فَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فَهُوَ فَائِزٌ، بَقِيَ أَوْلَادُهُ أَخَذُوا الْأَمَانَةَ مِنْهُ وَالْآخِذُ مِنَ الْأَمِينِ لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ، وَلِهَذَا وَارِثُ الْمُودَعِ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ تَجْدِيدِ عَهْدٍ وَائْتِمَانٍ، فَالْمُؤْمِنُ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَصَارَ أَمِينًا مِنَ اللَّهِ فَصَارَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَانَ لَهُ مَا كَانَ لِآدَمَ مِنَ الْفَوْزِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَابِ:
٧٣] أَيْ كَمَا تَابَ عَلَى آدَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: ٣٧] وَالْكَافِرُ صَارَ آخِذًا لِلْأَمَانَةِ مِنَ الْمُؤْتَمَنِ فَبَقِيَ فِي ضَمَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَ الْأَمَانَةَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ وَالْأَمِينُ لَا يَضْمَنُ مَا فَاتَ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ، وَالْكَافِرُ إِذَا أَصَابَ الْأَمَانَةَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لِأَنَّهُ يَضْمَنُ مَا فَاتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِتَقْصِيرٍ اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: خَصَّ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْأُمُورِ وَأَحْمَلُهَا لِلْأَثْقَالِ، وَأَمَّا السموات فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [النَّبَأِ: ١٢] وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ لَا تَخْفَى شِدَّتُهَا وَصَلَابَتُهَا، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمَّا كَانَتْ لَهَا شِدَّةٌ وَصَلَابَةٌ عَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمَانَةَ عَلَيْهَا وَاكْتُفِيَ بِشِدَّتِهِنَّ وَقُوَّتِهِنَّ فَامْتَنَعْنَ، لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ أَقْوِيَاءَ إِلَّا أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَوْقَ قُوَّتِهِنَّ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ ضَعْفِهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاءِ: ٢٨] وَلَكِنْ وَعَدَهُ بِالْإِعَانَةِ عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute