للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَقَائِهِمْ وَتَكْوِينِهِمْ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا وَقُوَاهَا كَالْعَيْنِ وَالْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ وَالْأُذُنِ وَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ وَغَيْرِهِمَا وَنَزِيدُ لَهُ مَا هُوَ زِينَةٌ كَالْعَقْلِ الْكَامِلِ وَالْإِدْرَاكِ الشَّامِلِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ نُحْيِي الْمَوْتَى إِحْيَاءً تَامًّا كَمَا أَحْيَيْنَا الْأَرْضَ إِحْيَاءً تَامًّا.

المسألة الرابعة: قال عند ذِكْرِ الْحَبِّ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَفِي الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ قَالَ: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّ قُوتٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَقَالَ: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أَيْ هُمْ آكِلُوهُ، وَأَمَّا الثِّمَارُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنْ كُنَّا مَا أَخْرَجْنَاهَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مِنْ غَيْرِ أَكْلٍ فَأَخْرَجْنَاهَا لِيَأْكُلُوهَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: خَصَّصَ النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ بِالذِّكْرِ مِنْ سَائِرِ الْفَوَاكِهِ لِأَنَّ أَلَذَّ الْمَطْعُومِ الْحَلَاوَةُ، وَهِيَ فِيهَا أَتَمُّ وَلِأَنَّ التَّمْرَ وَالْعِنَبَ قُوتٌ وَفَاكِهَةٌ، وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُهُمَا وَلِأَنَّهُمَا أَعَمُّ نَفْعًا فَإِنَّهَا تُحْمَلُ مِنَ الْبِلَادِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الرُّمَّانَ وَالزَّيْتُونَ فِي الْأَنْعَامِ وَالْقَضْبَ وَالزَّيْتُونَ وَالتِّينَ فِي مَوَاضِعَ، نَقُولُ فِي الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا الْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ [الأنعام: ٩٩] وَإِلَى قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [عَبَسَ: ٢٤] فاستوفى الأنواع بالذكر وهاهنا الْمَقْصُودُ ذِكْرُ صِفَاتِ الْأَرْضِ فَاخْتَارَ مِنْهَا الْأَلَذَّ الْأَنْفَعَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْفَوَائِدُ وَيُعْلَمُ مِنْهُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرَّحْمَنِ: ٦٨] .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ الْفَوَاكِهَ لَمْ يَذْكُرِ التَّمْرَ بِلَفْظِ شَجَرَتِهِ وَهِيَ النَّخْلَةُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعِنَبَ بِلَفْظِ شَجَرَتِهِ بَلْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْعِنَبِ وَالْأَعْنَابِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَرْمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِنَبَ شَجَرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهِ حَقِيرَةٌ قَلِيلَةُ الْفَائِدَةِ وَالنَّخْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهِ عَظِيمَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ كَثِيرَةُ الْجَدْوَى، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الظُّرُوفِ مِنْهَا يُتَّخَذُ وَبِلِحَائِهَا يُنْتَفَعُ وَلَهَا شَبَهٌ بِالْحَيَوَانِ فَاخْتَارَ مِنْهَا مَا هُوَ الْأَعْجَبُ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَجْزَاؤُهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ لَا تَصْعَدُ وَنَحْنُ نَرَى مَنَابِعَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْقَائِلُونَ بِالطَّبَائِعِ قَالُوا إِنَّ الْجِبَالَ كَالْقِبَابِ الْمَبْنِيَّةِ وَالْأَبْخِرَةُ تَرْتَفِعُ إِلَيْهَا كَمَا تَرْتَفِعُ إِلَى سُقُوفِ الْحَمَّامَاتِ وَتَتَكَوَّنُ هُنَاكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ تَجْتَمِعُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَوِيَّةً تَحْصُلُ الْمِيَاهُ الرَّاكِدَةُ كَالْآبَارِ وَتَجْرِي فِي الْقَنَوَاتِ، إِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً تَشُقُّ الْأَرْضَ وَتَخْرُجُ أَنْهَارًا جَارِيَةً وَتَجْتَمِعُ فَتَحْصُلُ الْأَنْهَارُ الْعَظِيمَةُ وَتَمُدُّهَا مِيَاهُ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ، فَنَقُولُ اخْتِصَاصُ بَعْضِ الْجِبَالِ بِالْعُيُونِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَمَا ذَكَرُوهُ تَعَسُّفٌ، فَالْحَقُّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَاءَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ وَسَاقَهَا فِي الْأَنْهَارِ وَالسَّوَاقِي أَوْ صَعَدَ الْمَاءُ مِنَ المواضع المستفلة إِلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَجَرَى فِي الْأَوْدِيَةِ إِلَى الْبِقَاعِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أهلها.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ وَالتَّرْتِيبُ ظَاهِرٌ وَيَظْهَرُ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ أَخَّرَ التَّنْبِيهَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِقَوْلِهِ: لِيَأْكُلُوا عَنْ ذِكْرِ الثِّمَارِ حَتَّى قَالَ: وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ وَقَالَ فِي الْحَبِّ: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ عَقِيبَ ذِكْرِ الْحَبِّ، وَلَمْ يَقُلْ عَقِيبَ ذِكْرِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ لِيَأْكُلُوا؟ نَقُولُ الْحَبُّ قُوتٌ وَهُوَ يَتِمُّ وُجُودُهُ بِمِيَاهِ الْأَمْطَارِ وَلِهَذَا يُرَى أَكْثَرُ الْبِلَادِ لَا يَكُونُ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالزَّرْعِ وَالْحِرَاثَةُ لَا تَبْطُلُ هُنَاكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَاءِ السَّمَاءِ وَهَذَا لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ حَيْثُ جَعَلَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ أَعَمَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>