للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَعْنَى أَعْهَدْ وُجُوهٌ أَقْرَبُهَا وأقربها أَلَمْ أُوصِ إِلَيْكُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذَا الْعَهْدِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي كَانَ مَعَ أَبِينَا آدَمَ بِقَوْلِهِ عَهِدْنا إِلى آدَمَ [طه: ١١٥] ، الثَّانِي: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ مَعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْمُرُ بِالشَّرِّ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ مَعْنَاهُ لَا تُطِيعُوهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ السُّجُودَ لَهُ فَحَسْبُ، بَلِ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ وَالطَّاعَةُ لَهُ فَالطَّاعَةُ عِبَادَةٌ، لَا يُقَالُ فَنَكُونُ نَحْنُ مَأْمُورِينَ بِعِبَادَةِ الْأُمَرَاءِ حَيْثُ أُمِرْنَا بِطَاعَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: ٥٩] لِأَنَّا نَقُولُ طَاعَتُهُمْ إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا تَكُونُ إِلَّا عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ، وَكَيْفَ لَا وَنَفْسُ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ لِلْغَيْرِ إِذَا كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِبَادَةً لِلَّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَجَدُوا لِآدَمَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا عِبَادَةً لِلَّهِ، وَإِنَّمَا عِبَادَةُ الْأُمَرَاءِ هُوَ طَاعَتُهُمْ فِيمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ بِمَاذَا تَعْلَمُ طَاعَةَ الشَّيْطَانِ مِنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، مَعَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ مِنَ الشَّيْطَانِ خَبَرًا وَلَا نَرَى مِنْهُ أَثَرًا؟ نَقُولُ عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ أَوِ الْإِتْيَانِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ لَا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، فَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَكُونُ الشَّيْطَانُ يَأْمُرُكَ وَهُوَ فِي غَيْرِكَ، وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَأْمُرُكَ وَهُوَ فِيكَ، فَإِذَا جَاءَكَ شَخْصٌ يَأْمُرُكَ بِشَيْءٍ، فَانْظُرْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ لَيْسَ مُوَافِقًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا فذلك الشخص معه الشَّيْطَانِ يَأْمُرُكَ بِمَا يَأْمُرُكَ بِهِ، فَإِنْ أَطَعْتَهُ فَقَدْ عَبَدْتَ الشَّيْطَانَ، وَإِنْ دَعَتْكَ نَفْسُكَ إِلَى فِعْلٍ فَانْظُرْ أَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَنَفْسُكَ هِيَ الشَّيْطَانُ، أَوْ مَعَهَا الشَّيْطَانُ يَدْعُوكَ، فَإِنِ اتَّبَعْتَهُ فَقَدْ عَبَدْتَهُ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْمُرُ أَوَّلًا بِمُخَالَفَةِ/ اللَّهِ ظَاهِرًا، فَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ عَبَدَهُ وَمَنْ لَمْ يُطِعْهُ فَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ، بَلْ يَقُولُ لَهُ اعْبُدِ اللَّهَ كَيْ لَا تُهَانَ، وَلِيَرْتَفِعَ عِنْدَ النَّاسِ شَأْنُكَ، وَيَنْتَفِعَ بِكَ إِخْوَانُكَ وَأَعْوَانُكَ، فَإِنْ أَجَابَ إِلَيْهِ فَقَدْ عَبَدَهُ لَكِنَّ عِبَادَةَ الشَّيْطَانِ عَلَى تَفَاوُتٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْهَا مَا يَقَعُ وَالْعَامِلُ مُوَافِقٌ فِيهِ جَنَانَهُ وَلِسَانَهُ وَأَرْكَانَهُ، وَمِنْهَا مَا يَقَعُ وَالْجَنَانُ وَاللِّسَانُ مُخَالِفٌ لِلْجَوَارِحِ أَوْ لِلْأَرْكَانِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْتَكِبُ جَرِيمَةً كَارِهًا بِقَلْبِهِ لِمَا يَقْتَرِفُ مِنْ ذَنْبِهِ، مُسْتَغْفِرًا لِرَبِّهِ، يَعْتَرِفُ بِسُوءِ مَا يَقْتَرِفُ فَهُوَ عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ بِالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْتَكِبُهَا وَقَلْبُهُ طَيِّبٌ وَلِسَانُهُ رَطْبٌ، كَمَا أَنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَفْرَحُ بِكَوْنِهِ مُتَرَدِّدًا إِلَى أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ لِلسِّعَايَةِ، وَيَعُدُّ مِنَ الْمَحَاسِنِ كَوْنَهُ سَارِيًا مَعَ الْمُلُوكِ وَيَفْتَخِرُ بِهِ بِلِسَانِهِ، وَتَجِدُهُمْ يَفْرَحُونَ بِكَوْنِهِمْ آمِرِينَ الْمَلِكَ بِالظُّلْمِ وَالْمَلِكُ يَنْقَادُ لَهُمْ، أَوْ يَفْرَحُونَ بِكَوْنِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالظُّلْمِ فَيَظْلِمُونَ، فَرِحِينَ بِمَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فالطاعة التي بِالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَوَاطِنُ طَاهِرَةٌ مُكَفَّرَةٌ بِالْأَسْقَامِ وَالْآلَامِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ، وَمِنْ ذَلِكَ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»

وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ» ،

أَيْ لِمِثْلِ هَذِهِ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فِي الْحُدُودِ «إِنَّهَا كَفَّارَاتٌ»

وَمَا يَكُونُ بِالْقُلُوبِ فَلَا خَلَاصَ عَنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَإِقْبَالِ الْقَلْبِ عَلَى الرَّبِّ، وَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْمِثَالُ يُوَضِّحُ الْحَالَ فَنَقُولُ إِذَا كَانَ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَمِيرٌ وَلَهُ غِلْمَانٌ هُمْ مِنْ خواص الأمير وأتباع بعداءهم مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ، فَإِذَا صَدَرَ مِنَ الْأَمِيرِ مُخَالَّةٌ وَمُسَارَّةٌ مَعَ عَدُوِّ السُّلْطَانِ وَمُصَادَقَةٌ بَيْنَهُمَا، لَا يَعْفُو الْمَلِكُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الصَّفْحِ، أَوْ يَكُونُ لِلْأَمِيرِ عِنْدَهُ يَدٌ سَابِقَةٌ أَوْ تَوْبَةٌ لَاحِقَةٌ، فَإِنْ صَدَرَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَمِيرِ مُخَالَفَةٌ وَهُوَ بِهِ عَالِمٌ وَلَمْ يَزْجُرْهُ، عُدَّتِ الْمُخَالَفَةُ مَوْجُودَةً مِنْهُ، وإن كان

<<  <  ج: ص:  >  >>