للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْمُقْسَمُ بِهِ هاهنا خَالِقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا أَعْيَانُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَلِفَ بِالشَّيْءِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَعْظِيمٌ عَظِيمٌ لِلْمَحْلُوفِ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْظِيمِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَأَكُّدٌ بِمَا أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْسِ: ٥- ٧] ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَسَمَ وَقَعَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِحَسَبِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَالْعُدُولُ عَنْهُ خِلَافُ الدَّلِيلِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالسَّماءِ وَما بَناها فَعَلَّقَ لَفْظَ الْقَسَمِ بِالسَّمَاءِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْقَسَمَ بِالْبَانِي لِلسَّمَاءِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَسَمِ بِالسَّمَاءِ الْقَسَمَ بِمَنْ بَنَى السَّمَاءَ لَزِمَ التَّكْرَارُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يبعد أن تكون الحكمة في قسم من اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ التَّنْبِيهَ عَلَى شَرَفِ ذَوَاتِهَا وَكَمَالِ حَقَائِقِهَا، لَا سِيَّمَا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُ تَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي الْقَسَمِ بِهَا التَّنْبِيهَ عَلَى جَلَالَةِ دَرَجَاتِهَا وَكَمَالِ مَرَاتِبِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنْ قِيلَ ذِكْرُ الْحَلِفِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ لَائِقٍ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ إِمَّا إِثْبَاتُ هَذَا الْمَطْلُوبِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ أَوَ عِنْدَ الْكَافِرِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُقِرٌّ بِهِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْحَلِفُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، فَهَذَا الْحَلِفُ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ/ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَلَفَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَحَلَفَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ وَالذَّارِيَاتِ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ حق فقال: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذَّارِيَاتِ: ١- ٦] وَإِثْبَاتُ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ بِالْحَلِفِ وَالْيَمِينِ لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ، وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَصِحَّةَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ لَمْ يَبْعُدْ تَقْرِيرُهَا فَذَكَرَ الْقَسَمَ تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ لَا سِيَّمَا وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَإِثْبَاتُ الْمُطَالِبِ بِالْحَلِفِ وَالْيَمِينِ طَرِيقَةٌ مَأْلُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا هُوَ كَالدَّلِيلِ الْيَقِينِيِّ فِي كَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] أن انتظام أحوال السموات وَالْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، فَهَهُنَا لَمَّا قَالَ: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ كَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّظَرَ فِي انتظام هذا العالم يدل على كونه الْإِلَهِ وَاحِدًا فَتَأَمَّلُوا فِي ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِيَحْصُلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِالتَّوْحِيدِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ:

فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ هَذَا الْكَلَامِ الرَّدُّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فِي قَوْلِهِمْ بِأَنَّهَا آلِهَةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ هَذَا الْمَذْهَبُ قَدْ بَلَغَ فِي السُّقُوطِ وَالرَّكَاكَةِ إِلَى حَيْثُ يَكْفِي فِي إِبْطَالِهِ مِثْلُ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَمَّا دلالة أحوال السموات وَالْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ، وَعَلَى كَوْنِهِ وَاحِدًا مُنَزَّهًا عَنِ الشَّرِيكِ فَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبُّ الْمَشارِقِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَشَارِقَ الشَّمْسِ قَالَ السُّدِّيُّ الْمَشَارِقُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَشْرِقًا وَكَذَلِكَ الْمَغَارِبُ فَإِنَّهُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَشْرِقٍ وَتَغْرُبُ كُلَّ يَوْمٍ فِي مَغْرِبٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَشَارِقَ الْكَوَاكِبِ لِأَنَّ لِكُلِّ كَوْكَبٍ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا، فَإِنْ قِيلَ لِمَ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشَارِقِ؟ قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشَارِقِ كَقَوْلِهِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>